“راشد المحمد” الشهيد الحي.. يروي قصة خروجه من الموت إلى كرسيه المتحرك
كسيارة إسعاف ركنت بعيداً بعد إنجاز مهمتها ، كان راشد المحمد إلى جدار غرفته ، يتجه شرقاً في هذا الشرق القتيل ، يحرك بعض أصابع يديه في محاولة بائسة لبث الحياة فيهما، فيما توضّع جسده المتعب على كرسي متحرك صار جزءاً منه لا يغادره إلا على سرير العلاج أو النوم.
راشد المحمد هو الشهيد الحي لمنظومة الإسعاف في حمص ، لم يتأخر يوماً عن تنفيذ مهمة أوكلت إليه حتى لو كانت في لهيب النار التي التهمت وطناً يحبه.
روى لتلفزيون الخبر الذي زاره في منزله في قرية الريحانية بريف حمص الغربي آخر مهمة أوكلت إليه والتي نجا منها بأعجوبة قائلاً: “تم تكليفنا بمهمة إلى مدينة القصير بريف حمص الجنوبي في 24/9/2011، وبعد وصولنا إليها طلب منا عميد في الشرطة الذهاب لإسعاف ضابط برتبة نقيب كان أصيب في الاشتباكات في منطقة عرجون وكان برفقتي فني التخدير الشهيد محمد خضور”.
وتابع راشد المحمد: “قلنا حينها للعميد أننا لا نعرف المنطقة التي سندخلها فقال سيدلكم الشرطي يوسف اليوسف إلى المكان، فاتجهنا شمالاً باتجاه عرجون، وبعد أن دخلنا المنطقة المذكورة، همس الشهيد محمد خضور “خفف السرعة شوي يا راشد وانظر إلى الملثمين حولنا، يبدو أننا دخلنا في منطقة للمسلحين”.
وأضاف: “فعلاً خففت السرعة قليلاً لينهال علينا الرصاص بغزارة المطر، فاستشهد محمد خضور والشرطي يوسف اليوسف وأصبت بطلقة في الكتف الأيمن دخلت في الرقبة واستقرت في لوح الكتف الأيسر ورصاصتين في الفخذ وبعدها فقدت السيطرة على السيارة التي اصطدمت في جدار أحد المنازل لأغيب عن الوعي بعدها”.
وأكمل المحمد: “استيقظت من غيبوبتي وكنت ممداً على الأرض في أحد المنازل، والمسلحين حولي ، أسمع كل شيئ ولا أستطيع الكلام أو الحركة، وعرفت حينها أنني أصبت بشلل نتيجة إصابتي في الرقبة، وانهال علي الجميع بالضرب بالعصي و”الكرابيج “، والحمد لله أنني لم أشعر بألم”.
“وبدأ المسلحون بجلسة تحقيق فوجهوا لي عدة أسئلة لم أجب عليها فاعتقدوا أنني لا أريد الكلام، وبالحقيقة انا فقدت النطق حينها فكان ذلك حافزاً لضربي مجدداً، دون جدوى”.
وأردف: “بعد مرور أكثر من ساعة من الضرب والتنكيل والنزف واحتدام الخلاف بين ذبحي بالساطور أو قتلي بالرصاص، دخل حينها رجل سبعيني فقال لهم اتصلوا بفلان، “نسيت اسمه”، وبعد قليل حضر الشخص الذي اتصلوا به ومعه سيارة هونداي شاحنة لنقل “روث الحيوانات”، و وضعوني فيها وقام صاحب السيارة بنقلي إلى مخفر شرطة تل النبي مند”.
وتابع الشهيد الحي قصته: “عند وصولنا سمعته يقول لهم وجدناه قرب ساقية المياه وهو مصاب ولا نعرف عنه شيئاً، حاولت الكلام ليمسكوا به كونه يعرفهم ولكن لم يستطع أحد أن يفهم ما أريد”.
وعندها حضر عناصر الشرطة وتعرّف علي شرطي من قرية بعرين وقال: “هذا راشد، أعرفه جيداً وخدمنا سوياً في الطرق العامة في وقت سابق”.
ونقلني عناصر الشرطة في سيارة إسعاف ” دبين ” ليتم إسعافي بشكل أولي ومن ثم نقلي إلى المشفى العسكري ومنه إلى المشفى الأهلي في حمص وبقيت حوالي ستة أشهر متنقلاً بين مشفى تشرين و مشفى حرستا و مشفى حاميش في دمشق.
وبعد أن استقرت حالة راشد الصحية تم تسريحه من العمل براتب تقاعدي 18 ألف ومن ثم أصبح 22 ألف ليرة، ومنح أيضاً كرسياً متحركاً وتعويضات بلغت حوالي 550 ألف ليرة.
ويقول راشد حول ذلك: “قمت بواجبي ونفذت مهماتي الإسعافية في الرستن وتلبيسة وريف حماة و تلكلخ وأحياء حمص و أخيراً القصير، ومنذ ست سنوات وأنا على هذا الكرسي لا أخرج إلا لحديقة المنزل أو لعيادة طبيب”.
وبين راشد أنه “لم يتلق أي اهتمام من أية دائرة حكومية باستثناء الزملاء في منظومة الإسعاف وعلى رأسهم الدكتور محمد الكوسا و “أبو عارف”، حيث جمعوا مبلغاً مالياً في كل شهر ليساعدوني في تدبر شؤون حياة أسرتي، وكان زارني المدير الإداري في صحة حمص غازي ديب قبل عدة سنوات ووعدني بتوظيف زوجتي في مستوصف القرية وبعد أكثر من شهر قال بأنهم لم يوافقوا على توظيف زوجتي”.
ويعيش الشهيد الحي وهو ينتظر في كل شهر زيارة رفاقه له في القرية، ليستخبر عن أحوالهم فيسمع بين حين وآخر بأن زميل له ارتقى شهيداً وزميل آخر أصيب أثناء تقديم الواجب ويودعهم على أمل اللقاء في الشهر القادم متمنياً أن يكونوا بخير.
وللشهيد الحي راشد المحمد ثلاثة ذكور، “شعيب” طالب جامعي سنة أخيرة مناهج وطرائق التدريس، و”يوشع” معلم صف سنة ثالثة و”علي” في الصف التاسع وابنتيه الاولى طالبة جامعية معلم صف والثانية في الصف السابع.
ويعمل الذكور في مساعدة المزارعين في القرية مقابل أجر زهيد ليستمروا في دراستهم ويقول بفخر: “حمد لله أولادي عم يطالعوا موادهم وعم يشتغلوا وعم يهتموا فيني”.
وراشد المحمد هو اليوم نسياً منسياً، لا يطلب من الجهات الرسمية التي ” تتبروظ ” على حساب الجريح شيئاً، في الوقت الذي يتضرع إلى الله كي يخفف أمره فيقضي حوائجه دون مساعدة أولاده.