السّن ب 200 والراس ب 5000 ل.س .. يا مرحباً برائحة الثوم
متنقلة بين محال الخضار قرب جامع زين العابدين بحي العباسية في مدينة حمص، تحمل رجاء حقيبة قماشية خضراء مخصصة لحمل الأوزان الكبيرة، وتتنقل بين الباعة مرددة السؤال ذاته لتسمع جواباً يختلف بين واحدٍ وآخر.
“بقديش التوم اليوم”، لا تمل رجاء (60 عاماً) من طرح السؤال مراراً عليهم، ولم تعتد سماع الإجابة الواحدة، بقيت تسبب لها الحيرة والصدمة في آن معاً، كل مرة، وتسأل نفسها كل مرة “متى وصل سعر كيلو الثوم إلى 85 ألف ليرة!”.
“هادا مفوفش وهادا مقطّن”، تبرَع رجاء، وهي أم لأربعة أولاد وتعيش رحلة بحث يومية وأسبوعية وشهرية لتوازن بين التغذية ودخلها المحدود، تبرع في إيجاد عيوب الثوم المعروض للبيع، لتتهرب من شرائه والحفاظ على ماء وجهها، وما تبقى من راتبها التقاعدي أيضا ً.
وكطفل حديث الولادة، تحمل رجاء أقراص الثوم وتقلّبها بحذر وحرص شديدين، باحثة عن أي (سنٍّ) متعفن غير صالح للطهي، ف”كل واحد له ثمنه بمئات الليرات إن تم إجراء عملية حسابية بسيطة”، كما قالت لتلفزيون الخبر.
“افتح الآلة الحاسبة وتأكد”، تصرّ رجاء على مشاركة أفكارها كآلية تدريجية لاستيعاب ما تسمعه من أرقام، فسعر كيلو الثوم وصل الى 85 ألف ليرة، والكيلو يحتوي ما يقارب 15 قرص وسطياً، فيكون سعر القرص نحو 5 آلاف ليرة، ويتراوح عدد (سنان) الثوم في القرص نحو 25 ذات حجم متوسط، ليكون بذلك سعر السن الواحد 200 ليرة”.
“أغلى من الفروج”، تكمل رجاء المتقاعدة حديثاً من مهنة التعليم لتلفزيون الخبر، فكيلو الفروج حالياً لا يتجاوز 35 ألف ليرة، وهو ما يثير العجب في أسعار المواد الغذائية بشكل عام.
“أرستقراطي يلي بتطلع ريحة تمو توم”، تستهزئ رجاء من تبدل الأحوال مقارنة بالماضي، وبوجه مبتسم تستفيض بالقول ” قديماً كان انبعاث رائحة الثوم من فم أحدهم وصمة عار ولوم، أما الآن أصبح الأمر مدعاة للفخر وإظهار يسر الحال”.
“مو بس انتي يا أختي الكل بيشتري هيك”، يحاول بائعٌ ستينيّ التخفيف من حرجٍ مختبئ في كثرة أسئلة رجاء، مؤكداً لتلفزيون الخبر أن بعض السيدات يشترين بالقرص معظم الأحيان، نتيجة الغلاء الكبير وضعف القوة الشرائية لمعظمهن.
وما إن تمكنت رجاء من تحديد أرخص الباعة، عادت نحوه متغاضية عن عامل الجودة جزئياً لتخوض معركة “مفاصلة” يبدو أن طرفيها يحفظان دورهما فيها جيداً.
حسمٌ مغرٍ ما يبدو أن رجاء حصلت عليه من بائع يبدو على وجهه الملل، عبّأ لها نصف كيلو ثوم بخمسة وثلاثين ألف ليرة، بعد أن أمطرته بسيل هموم وتكاليف تتكبدها يومياً، دون أن يبدو على وجهه أي تأثر، ودون أن يبدو على وجهها أي امتنان.
البائع شبه المختفي وراء ميزان الكتروني، والملتحف بوشاح سميك و”بطانية” عسكرية، لم يبذل جهداً كبيراً في توضيح أسباب ارتفاع أسعار الثوم مختصراً الحديث بعبارة “ما حدا قلهم يصدروه”.
“كل شيء يخضع للعرض والطلب، وحاليا ً فالعرض قليل والطلب كبير بعد السماح بتصدير كميات كبيرة منه، ما أدى لاحتكار الثوم المتبقي من قبل التجار في سوق الهال”، شرح بسيط لسيناريو متكرر يلقيه البائع في وجه السائل ببساطة شديدة وهو يعيد رصّ وترتيب أقراص الثوم الأكثر جودة في مقدمة طاولة العرض.
معيداً إلى البال موافقة رئيس مجلس الوزراء المهندس حسين عرنوس، على توصية اللجنة الاقتصادية المتضمنة فتح باب التصدير والسماح بتصدير مادة الثوم الأخضر لكمية 5000 طن كحد أقصى لمدة شهرين. على أن “تراقب وزارة الزراعة والاتحاد العام للفلاحين واتحاد غرف الزراعة السورية السوق”، بحسب ما تم تداوله حينها.
“الكيلو بنص راتبي”، تعود رجاء للعمليات الحسابية التي خبرها معظم السوريين مع مرور الأزمة وارتفاع مستوى التضخم، فراتبها التقاعدي لا يتجاوز 198 ألف ليرة، وهو كاف لشراء 2 كيلو من الثوم فقط.
“قد ما موّنت رح يخربو”، تؤكد رجاء أنه وبعد موسم قلع الثوم في أيار تبدأ الاسر السورية بتموين استهلاكها السنوي على شرفات المنازل، لكنه ومهما بقي محافظاً على طعمه سينتهي إلى التعفن، في وقت لم يعد خَيار تقشيره وحفظه في الثلاجات متاحاً للأسرة التي مسحت من قاموس عاداتها كل ما يرتهن بوجود كهرباء.
تتابع السيدة جولتها للاستعلام حول أسعار الموجود والموسمي من الخضار، وبيقين بدأ يتكوّن أن حقيبتها لن تحفل بكثير من المشتريات، لاختلال الميزانية المخصصة لذلك بنصف كيلو ثوم.
وبحرص شديد لا يخلو من بعض الاحترام، تُدخِل رجاء نصف كيلو الثوم إلى الحقيبة الخضراء، التي لم تلعب الدور المقدّر لها، متحولة إلى حقيبة قماشية مخصصة لحمل ما ارتفع ثمنه وخفّ وزنه، قاطعة طريقها بمعرفة الخبير، نحو طاولة كبيرة تُعرض فوقها أصنافٌ وحِزمٌ من الخضار الورقية، لتبدأ ما يبدو من بعيد جولة مفاوضات جديدة.
عمار ابراهيم- تلفزيون الخبر