سوق الهال.. الغول الذي يبتلع جهد وعرق المزارعين مع باكورة الموسم الزراعي
شقّت الخضار والفواكه الرجعية (الباكورية) طريقها إلى أسواق محافظة طرطوس، على إيقاع بدء عمليات جنيها في الأرياف والمناطق المحيطة، ليباع كيلو “اللوز الأخضر” مثلاً في سوق الهال بمدينة بانياس، الأربعاء، بسعر 250 ألف ليرة سورية، والفول الأخضر بـ12 ألف ليرة، بعد أن وصلت إلى أرقام قياسية خلال الأيام الماضية، حالها حال معظم الفواكه والخضار الموسمية في بداياتها.
وخيّبت الأسعار، رغم “فلكيتها” بالنسبة لمواطن محدود الدخل، آمال المزارعين الذين ينتظرون موسم “الباكوري” (أول القطاف) بفارغ الصبر، فحسابات سوق الهال لم تأتِ متناغمة مع حساباتهم، إذ ضربوا الكف بالكف، متحسرين على محصول خيّب الآمال في أوله “فالتجار أكلوا البيضة وقشرتها”، وفق وصفهم، فكيف الحال بعد أن يكثر العرض مع ازدياد عمليات الجني؟، بحسب ما ذكروه لتلفزيون الخبر.
شراء بالحبة أو “للدواق”؟
وفي محال بيع الخضار والفواكه، لم تكن الأسعار مختلفة كثيراً عن سوق الهال، إذ يتصدّر اللوز الأخضر واجهات محدودة، وبالرغم من أنه ليس مادة أساسية، وتندرج تحت قائمة “الكماليات”، إلّا أن هناك كثيرين ينتظرونه قبل أوانه “شهوة”، وفق تعبيرهم، وهم على استعداد لشرائه مهما بلغ ثمنه، إلّا أن مبيعه هذا الموسم، بحسب بائعين، أصبح بـ”الحبة”، بعد أن كان العام الماضي بـ”الوقية”.
وبات من الرائج محلياً شراء مختلف الخضراوات والفواكه بـ”الحبة”، وهو تقليد اعتاد عليه “عامر” (أب لطفلتين بسن المدرسة)، كما قال لتلفزيون الخبر، إذ أنه يشتري 4 تفاحات، لكن ذلك لا يتناسب مع جميع الفواكه، مؤكّداً أنه لم يستطع شراء “جبسة” لأطفاله، الصيف الماضي، متمنياً أن يتجه الباعة لبيعه هذا العام “ع الطريقة الأوروبية”، ليستطيع شراء نصف جبسة في الموسم، إن استطاع إليها سبيلا.
ويفاضل “عامر” كغيره من السوريين بين الفواكه والخضار الأساسية ومستلزمات الطبخة اليومية، إذ أكّدت “أم علي” أنها لا تنظر حتى إلى الفواكه الأساسية، فما بالك بـ”الباكورية”، فزوجها يترك لها يومياً 35 ألف ليرة لشراء مستلزمات طبختها، وعند سؤالها عن طبيعة الطبخة التي يمكن طهيها بـ35 ألف ليرة، قالت إنها “اشترت 2 كليو بطاطا وباقتين صغيرتين بصل أخضر ورشاد”، وأردفت “نعمة من الله”.
وقال خليل محمود (مزارع لوز) – من قرية “بيت الشيخ متوّج” بريف بانياس، لتلفزيون الخبر، إن “المواسم الباكورية أو الرجعية هي ثمار تعطيها الأشجار في غير مواسمها بكميات قليلة جداً، إلّا أنه في السنوات الأخيرة وبسبب التغيّرات المناخية الطارئة ازدادت هذه الظاهرة، وكمياتها باتت ملحوظة، حتى أنه شهدنا إنتاج جوز باكوري هذا العام”.
وأوضح “محمود”، أن “كمية اللوز الأخضر الباكورية مثلاً تختلف بحسب كل شجرة، نوعها، وحجمها، فمنها ما يُعطي 10 حبات فقط أو نصف كيلو، وبعضها تصل إلى الكيلو في مناطق تتمتع بظروف مناخية ملائمة”، مُشيراً إلى أن اللوز “الباكوري” بدأ هذا الموسم في كانون الأول، وتجاوز سعر الكيلو حينها الـ400 ألف ليرة سورية.
رغم ارتفاع سعرها.. إقبال التجار على شراء الخضار “الباكورية”
وكشف تاجر في سوق الهال بمدينة بانياس (فضل عدم ذكر اسمه)، لتلفزيون الخبر، أنه “هناك إقبال كبير على الخضروات والفواكه الباكورية، خاصةً لتصديرها خارج البلاد إلى دول الجوار، إذ تحقق أسعار جيدة للمزارعين والتجار”، قائلاً، إن “الوسيط اشترى كيلو اللوز الأخضر من المزارعين، يوم الثلاثاء، بسعر يتراوح بين 225 إلى 250 ألف ليرة، بنسبة كومسيون 5%، بعد أن سجّل الكيلو 300 ألف ليرة قبل أسبوعين”.
وأضاف التاجر، أن “الفول الأخضر الباكوري المروي بالتنقيط، يُعدّ من المواد التي تشهد إقبالاً جيداً في الأسواق أيضاً، رغم قلّة العرض، وبلغ سعر الكيلو منه 12 ألف ليرة، علماً أن الموسم الفعلي للفول (المروي بعل) يحتاج إلى نحو 25 يوماً لتوافره في السوق المحلية، وحينها ستشهد أسعاره انخفاضاً ملموساً بطبيعة الحال نتيجة زيادة عرضه”.
تاجر: الأسعار ظالمة للمزارعين
وأُخذَ كيلو “الجارِنك الأخضر”، في سوق الهال بمدينة بانياس، من المزارعين بـ40 ألف ليرة فقط، الثلاثاء، وفق ذات التاجر، نتيجة قلّة الطلب عليه محلياً ما ينعكس على عملية التسعير، رغم قلّة الكميات المطروحة منه، واصفاً هذا السعر بـ”الظالم للمزارعين إلّا أن العملية رهن العرض والطلب”، لافتاً إلى أن “معظم هذه الكميات يتم تصديرها إلى الخارج من قبل تجار وبأسعار عالية جداً”.
وقال “إبراهيم سليمان” (مزارع)، من قرية “قرقفتي” بريف بانياس، لتلفزيون الخبر، أنه “بالنسبة للوز الباكوري فأشجاره تُزهر وتعقد في تشارين، ورغم كمياته القليلة جداً، فعملية التسعير حالها حال الموسم النظامي تتم عبر المزاد، ولو كان مصغراً، إذ أن أسواق الهال هي من تتحكّم بالسعر”.
وتعتبر قريتي “قرقفتي” و “كرميّا” بريف بانياس، بحسب “سليمان”، أشهر قرى الساحل السوري بزراعة اللوز الأخضر، واللوز “الباكوري” فيهما كميته أكبر نتيجة لظروفهما المناخية الملائمة، إضافةً إلى الاهتمام الزائد بهذا المحصول، إذ يعتمد عليه أهالي القريتين بشكلٍ كبير كمصدر للرزق.
“الأسواق الشعبية” خطوة حكومية “ناقصة”
وانطلقت في محافظات عدة، قبل سنوات، وبالتزامن مع ارتفاع الأسعار وتفاقم حدة الأزمة المعيشية، آنذاك، تجربة “الأسواق الشعبية”، كأحد الحلول التي أعلنت عنها ودعمتها الحكومة، بهدف توفير السلع بأقل الأسعار عبر كسر حلقات الوساطة، وبدأ العمل في استثمار الساحات، إذ تُعرض فيها المنتجات من المزارع إلى المستهلك مباشرةً، إلّا أن “التجربة لم تلقَ الدعم الكافي للتبلور والاستمرار وانحرفت عن مسارها”، وفق مزارعين.
وأبدى “مستهلكون” استطلع تلفزيون الخبر آراءهم حولها، عدداً من الملاحظات التي ظهرت مع انطلاق التجربة، ومنها أن الوصول إلى تلك الساحات سيرتب على القاطنين بعيداً عنها أعباء التنقل، بالتالي زيادة التكاليف، إضافةً إلى أن “الالتزام بالأسعار لم يكن موجوداً لدى الجميع”، كما قال بعض ممّن زاروا هذه الأسواق.
ورأى بعض المنتجين، أن “الأسواق الشعبية يمكن أن تكون مفيدة نسبياً للمستهلك، إلّا أن المزارع لن يستفيد منها بالشكل الذي يجعله يفضلها على سوق الهال، ففوائدها تقتصر على الفلاحين ممّن لديهم إنتاج محدود فقط”.
وقال آخرون، إن التجربة أجهضت في وقتها، من قبل التجار الذين اشتروا (بشكلٍ غير معلن) البسطات والأماكن المخصصة للفلاحين، منهم، وضموها إلى “ملاكهم”.
من يحكم “لعبة” أسواق الهال؟
وفي كل مرة يتم الحديث فيها عن غلاء أسعار الخضار والفواكه، تتعالى أصوات المزارعين بأنهم “الحلقة الأضعف”، وبأنه “ما على الوزارة إلّا كسر حلقة أسواق الهال أو على الأقل ضبطها”.
فالأخيرة، يكتنفها الكثير من الممارسات المشبوهة من قبل سماسرة برعوا بسن أعرافٍ وترسيخ قواعد أضحت أقرب ما تكون لقوانين خاصة بهذه الأسواق، وجعلت “التمرّد” أبرز صفاتها، قواعد ترجّح الكفة لتجارها وسماسرتها عند أيّة عملية بيع أو شراء.
وأعرافٌ تتمرّد على السوق وأدبياته، وتلعب دوراً ليس بالقليل في تحديد أسعار المنتجات الزراعية دون مراعاة وضع الفلاح المورد لهذه الأسواق، والذي غالباً ما يكون ضحية ما يسمّى – تجاوزاً – “تجار” سوق الهال، لأنهم في واقع الأمر سماسرة محترفون بوضع حسابات من نوع خاص يفبركونها ويبرمجونها وفق مصالحهم الخاصة.
“حماية المستهلك”: السعر يحدد بالتنسيق مع لجنة سوق الهال
وحول الأسعار وآلية وضعها، أفاد مدير التجارة الداخلية وحماية المستهلك بطرطوس، “نديم علوش”، الأربعاء، لتلفزيون الخبر، أنه “لليوم الثاني على التوالي تشهد أسواق الخضار والفواكه ارتفاعاً بالأسعار، نتيجة قلّة العرض”، قائلاً، إن “الموضوع تحت المراقبة”، في حين، أن “التسعيرة تصدر بالتنسيق مع لجنة سوق الهال”.
وأضاف “علوش”، أن “دوريات التموين ثابتة في سوق الهال لمتابعة عمله ومدى التزام التجار بالتسعيرة، وتمّ تنظيم ضبوط عدة بهذا الخصوص”.
وحول ذات الموضوع، قال مدير حماية المستهلك في وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك، “حسام نصر الله”، لتلفزيون الخبر، أن “السعر يحدد بناءً على التكاليف الحقيقية للمادة، وإضافة نسب الأرباح المحددة أصولاً”.
وأوضح “نصر الله”، أن “التسعير يتم بمديرية الأسعار بالوزارة بموجب لجنة مركزية خاصة بالأسعار، تدرس بيانات الكلفة الواردة إليها أصولاً، كما أن هناك لجان تسعير فرعية في المحافظات برئاسة عضو المكتب التنفيذي المختص تدرس تكلفة المواد والسلع المنتجة في المحافظة، ويتم إصدار النشرات السعرية”.
وتابع “نصر الله”، أنه “يتم توجيه دوريات حماية المستهلك بالمحافظات باستمرار للعمل على تشديد الرقابة التموينية على الأسواق، ومن ضمنه أسواق الهال (الجملة)، وبالتنسيق الدائم مع الإدارة التشغيلية لسوق الهال”.
وأردف مدير حماية المستهلك، أنه “تتم مراقبة المواد والتدقيق بمصدرها، وتكثيف سحب العينات لتحليلها والتأكّد من سلامتها وصلاحيتها ومطابقتها للمواصفات القياسية المطلوبة، إذ يتم حجز كافة الكميات المضبوطة المخالفة واتخاذ الإجراءات اللازمة قانوناً بحقها وبحق المخالفين”.
وبيّن “نصر الله”، أن “الضبوط المنظمة تُحال إلى القضاء المختص الذي يتولّى البت بالأمور المطروحة أمامه وفق أحكام المرسوم رقم 8 لعام 2021″، قائلاً، إنه “تم اتخاذ العديد من الآليات من قبل الوزارة بما يخص الرقابة على الأسواق بشكلٍ عام ونالت رضى شريحة كبيرة من المواطنين”.
وأشار “نصر الله”، إلى أن “الوزارة قامت بتفعيل الجولات الميدانية المفاجئة على كافة الأسواق، في مختلف المحافظات وبشكلٍ مستمر، وأعطت هذه الجولات نتائج جيدة، ويتم تطويرها والاستمرار بها”.
من ينصف المزارعين؟
وتبقى أكثر الأسئلة التي واجهناها عند إعداد هذا التقرير الموسع تدور حول أسباب عدم تدخل الحكومة بآلية عمل أسواق الهال، ربما من خلال إنشاء مراكز تسويقية وأسواق موازية بهدف ضبط الأسعار بشكلٍ مناسب وإلزام تجار سوق الهال بسعر مقارب يلائم المواطن، وتحد من تجاوزاتهم، كما حصل عند افتتاح منافذ بيع وصالات المؤسسة “السورية للتجارة”.
يُذكر أن مصادر قالت إنه “هناك ومنذ ما يزيد عن عقد من الزمن شركة مجهزة، اختصاصها فرز الفواكه والخضار وتوضيبها لتكون صالحة للتصدير، وبالوقت نفسه للاستهلاك المحلي، لكنها غير قادرة على الإنتاج، كون البعض لا يريد لها أن تبدأ بالعمل حتى لا يتوازن السوق، ويتأثر عمله سلباً”، بحسب ما نقلته صحيفة “البعث” الرسمية، في وقتٍ سابق.
شعبان شاميه – تلفزيون الخبر