شهادات جامعية تقود سيارة الأجرة .. حكايات من الشارع السوري
خلف مقود تكسي الأجرة، يجوب الشوارع طيلة النهار خريجون جامعيون دأب أصحابها سنوات على نيل شهاداتهم التعليمية بقصد العمل فيها، بذلوا لأجلها تعبا مضنياً وسهراً على طلب العلم لسنين طويلة.
منهم من حالفه الحظ للفوز بعمل وفق تخصصه الذي اختاره، ومنهم من لعبت به الدنيا في غير ملعبها وقلبت موازين حياتهم، لتغدو الحاجة المادية هي الأولى والأكثر إلحاحاً، فكانت مهنة “سائق التاكسي”، هي الملاذ الأمثل.
ولأن قيادة سيارة التاكسي في سوريا لم تحظى بقوانين خاصة تحدد من يعمل بها، بمتطلبات أكثر من شهادة سوق، فتح المجال أمام دوافع مختلفة للعمل بها، لاسيما وأنها غدت مصدر رزق لا يستهان به مقارنة بالوظائف المطلوبة للشهادات العلمية ورواتبها التي لا تغطي في بعض الأحيان التعب والمسؤوليات المتعلقة بذاك العمل.
رامي، شاب ثلاثيني حاصل على شهادة الهندسة المعمارية، تحدث لتلفزيون الخبر عن معناته لعدم فوزه بوظيفة أو عمل ضمن مجال دراسته، مضيفا” أشعر باليأس من حظي البائس، أضعت سنين من عمري في دراسة مجال أحقق فيه أحلامي، لأصطدم بالواقع الذي أجبرني على العمل كسائق سيارة أجرى”.
ويذكر رامي، أنه “خلال دراستي الجامعية، وقبل التخرج بقليل، بدأت الحرب، مما اضطرني للنزوح مع عائلتي من محافظتي الأم لدمشق، فحملت مع أهلي أعباءً جديدة لم تكن بالحسبان”.
ويتابع رامي “أُثقلنا بتكاليف الآجار لسنين طويلة، عدا عن غلاء المعيشة المستمر، وتعسر فرص العمر أو السفر لبدء طريق جديد، إلى أن اقترح أحد الجيران، وهو أيضاً طالب في كلية الحقوق آن ذاك، أن نعمل على سيارة لقريبه، نفيد ونستفيد في آن واحد، وهكذا بدأت في هذه المهنة التي أنستني العمارة وقوانينها ونصف مقرراتي الجامعية، إن لم يكن أغلبها”.
ويضحك رامي بحسرة حين تحدث عن مهارته في الرسم، والتي كانت دافعه الأكبر لدراسة الهندسة المعمارية، فيقول “أحياناً بيخطر عبالي أرسم، على أي شيء موجود أمامي، باكيت دخان، علبة محارم، ورقة مرمية، لحتى أكد لحالي أني لسا عندي موهبة، ويمكن قدرة على الحلم من جديد”.
ولهادي، حكاية أخرى في العمل، فهو كما أخبر تلفزيون الخبر، “يعمل في مجالين مختلفين في آن معاً، دوام صباحي كمحاسب لإحدى شركات الملابس في سوريا، وبعد الظهر سائق تكسي، ونظراً لخبرته الواسعة في اللغة الانكليزية، يعطي دروساً خصوصية لطلاب المرحلتين الابتدائية والاعدادية، أيام المذاكرات”.
ويشعر هادي أنه “يعيش حياة ملؤها العمل، ضغط مستمر بدافع تأمين لقمة العيش والحياة الكريمة، له ولأولاده الثلاثة”، ولا يرى في تنوع أعماله “أي مشكلة، فالشغل مو عيب، طالما بالحلال”، على حد تعبيره.
ويحاول هادي العمل في كل المجالات التي من الممكن الاستفادة منها مادياً، بغض النظر عن مدى اختلافها أو تقاربها، فهو نشأ في أسرة “عمل أبناؤها في العطل الصيفية منذ الصغر، كصبية في محال السوق، وأثناء الدراسة الجامعية، اختار كل منهم مجالاً تجارياً أو صناعياً للبدء به إلى حين التخرج”.
وأشار إلى أنه “هو وكل واحد من إخوته حائز على شهادة من تخصص مختلف ولم يتهاونوا أبداً تجاه الحصول عليها بالرغم من بدء الطريق في مجال آخر”.
ويروي (أبو خالد)، سائق تكسي ستيني لتلفزيون الخبر، أنه “تخرج منذ سبعينيات القرن الماضي من كلية الآداب قسم اللغة العربية، وعمل مدرساً لها في عدة محافظات، وها أنا بعد أكثر من ثلاثين عاماً من الخبرة في التدريس أعمل في مهنة لا تشبهني أبداً”.
وعزا أبو خالد أسباب توجهه إلى مهنة السائق، قائلاً “بعد التقاعد لم يعد هناك دخل كافٍ لي ولأسرتي، هموم الحياة كثيرة، ولا سبيل للعيش إلى بانتقاء خيارات جديدة، “احسن من البهدلة آخر العمر”.
ولم يندم أبو خالد على خياره، فيرى أن “تنوع المجالات علمني دروساً حياتية لم أعرفها في حياة التدريس سابقاً، والتعامل مع الطلبة في المدرسة، مختلف كلياً عن التعامل مع أناس مختلفين كل يوم، وهو ما يشعرني بالتجديد في كل مرة أدير فيها مفاتيح سيارتي، وأجوب الشوارع بحثاً عن زبائن ألبي حاجتهم”.
وكان لمهنة التكسي غرائب كثيرة، ظهرت في السنوات الأخيرة، حيث بدأت عدة نساء اقتحام المجال الذي احتكره الرجال لمدة طويلة، منهن سحر الحلواني، الملقبة بـ”أم عرب”.
و”أم عرب ” التقاها تلفزيون الخبر في وقت سابق، وذكرت أنها “قررت اختيار العمل كسائق لاعتقادي لأنه العمل الوحيد الذي لن يجبرني على الالتزام بمكان واحد، مما يسمح بالوصول لأسرتي عند الحاجة”.
و”أم عرب”، أم لثلاثة أولاد، وحاصلة على شهادة “بريفه” من بيروت، عملت في وقت سابق “كسائق سرفيس على خطين مختلفين في دمشق، وتملك خبرة واسعة في مجال إصلاح أعطال السيارات التي من الممكن أن تواجهها”.
وروت أنها “ترى في نفسها وعملها مصدر فخر لأطفالها، وذلك من خلال تشجيع مدرسيهم واحترامهم لها”.
ومن جهة أخرى، يرى (أبو علي) أن “امتهان “الدخلاء” كما أسماهم، من أصحاب الأعمال الأخرى، إلى مهنة قيادة سيارة الأجرة، هو أمر “غير أخلاقي”، كونه، ووفقاً لقوله “يسرق الرزق من شيوخ الكار، من كل من اختارها كمهنة منذ البداية”.
ودافع أبو علي عن عمله قائلاً “إنها مهنة إن لم يعشقها السائق، فلا جدوى من عمله بها، وهي ليست فقط خياراً جاء بالصدفة أو للحاجة، هي خيار كما كانت للكثير منا”.
وما بين متقبل ورافض للفكرة، تبقى فرصة العمل، وتحقيق الأولويات الحياتية تحت أي ظروف، هي الدافع الأول والأخير للكثير من السوريين، لا سيما في سنوات الحرب الأخيرة، التي وضعت كل شخص في المكان الذي لم يرده، مغيرة حياة الكثيرين، فرمى الشباب مخططات وأحلام وراء ظهورهم، واختاروا طريقاً جديداً، غدا هو السبيل الوحيد للاستمرار.
لين السعدي – تلفزيون الخبر