عن دمشق التي كانت .. “الخانات”
عندما كانت دمشق بأبوابها السبعة القديمة مفتوحة على الجهات الأربع، كانت تعتبر بوابة القوافل التجارية وقوافل الحجاج، حيث أقيمت فيها منازل مخصصة للمسافرين ومنشآت للنشاط التجاري وعمليات الاستيراد والتصدير وتبادل السلع بمختلف أنواعها.
وكان النشاط، حينها، يتموضع، إضافة الى الأسواق العامة، في منشآت خاصة تشيّد للأغراض التجارية واستقبال القوافل والمسافرين من تجار وحجاج، بعضها أقيم داخل المدينة وبعضها الآخر عند أطرافها.
وكان يطلق عليها أحياناً الفنادق وأحياناً القيساريات، وفي التسمية الأكثر شيوعاً “الخانات”، حيث شيدت خاناتٍ كثيرة في العهد العثماني بسبب تزايد النشاط التجاري وانتظام قوافل الحج القادمة إلى دمشق من أنحاء العالم.
وكانت وظيفة الخان في ذلك العهد تشمل النواحي المهنية والتجارية والسكنية، وكان الطابق الأرضي منها مخصصاً لنزول القوافل إذ يتسع للبضائع والخيول، أما الطابق العلوي فمزود بغرف صغيرة يبيت فيها التجار الغرباء والمسافرون.
وتطورت هندسة الخانات في أواخر العهد العثماني وأصبحت أشبه بسوق مغلقة مبنية على طابقين وأطلق عليها اسم وكالة، وكان يبنى الخان من الحجارة المنحوتة في واجهته وبوابته وجدرانه الداخلية.
كما استخدم الآجر لبناء القباب التي طليت بالكلس الأبيض، وتخللت بعض الواجهات والبوابات منها الزينة المعمارية والأحجار الملونة.
ومن هذه الخانات، خان الخياطين الذي يعد جزءاً من سوق الخياطين في المدينة القديمة، الذي بني بداية العهد العثماني، له واجهة حجرية وباب فخم وهندسته لا تختلف عن التصميم العام للخانات.
ومن الخانات أيضاً، خان الحرير الذي بناه والي دمشق درويش باشا، وعرف في البدء باسم “قيسارية” درويش باشا، ثم أطلق عليه اسم خان الحرير، ويقع في الجانب الشرقي من سوق الحرير وإلى الجنوب الغربي من الجامع الأموي.
ومنها أيضاً، خان سليمان باشا الذي يقع في سوق مدحت باشا على الجانب الجنوبي منه، قريباً من محلة الدقاقين، كان يطلق عليه قديماً اسم خان “الحماصنة” لأن تجار حمص كانوا ينزلون فيه، وخان المرادية الواقع عند باب البريد وله واجهة على سوق الحميدية وأخرى على سوق الحرير، وهندسته تبدو حديثة العهد ترجع الى مطلع القرن العشرين.
ومن الخانات، خان الجمرك الذي يقع إلى جوار خان المرادية وبابه مفتوح على سوق “القلبقجية” وله هندسة خاصة عبارة عن زاوية قائمة مسقوفة بست قباب وعلى جانبي الممر سلسلة من المخازن التجارية.
إضافة إلى خان الزيت الذي يقع في الجانب الشمالي من سوق مدحت باشا، باحته سماوية في وسطها بركة ماء محاطة بأروقة قائمة على عضائد وأقواس وطابقه العلوي مؤلف من رواق مسقوف بقباب صغيرة مزود بصف واحد من الغرف، أما الجهة الأخرى من الرواق فتطل على الباحة بقناطر مماثلة لقناطر الطابق الأرضي.
ومن الخانات الشهيرة، خان “التتن”، والتتن كلمة تركية معناها التبغ، حيث خصص هذا الخان لتجارة التبغ، ويقع إلى جنوب الجامع الأموي وشرق خان الحرير، بابه مفتوح على سوق السلاح، وهو من النموذج الذي سُقف صحنه بالقباب.
وتغطي قسمه الرئيسي الذي يلي الدهليز ثلاث قباب كبيرة، ويمتاز بوجود جناحين صغيرين يتفرعان من باحته بواسطة دهليز ضيق وكل جناح يماثل تصميم الخان ولكن بشكل مصغر.
ومن الخانات، خان “الصدرانية” المجاور لقصر العظم، بابه مفتوح على سوق البزورية وله دهليز مسقوف بعقد وثلاث قباب يليه صحن متعامد مع الدهليز مسقوف بقبتين أيضاً، ومحاط بأروقة من ثلاث جهات فقط. وله طابق علوي مزود بممر مسقوف بالقباب وعلى جانبه الداخلي غرف صغيرة.
أما أهم هذه الخانات من ناحية القيمة الهندسية والمعمارية فيأتي خان أسعد باشا، الذي وصفه الشاعر الفرنسي لامارتين عند زيارته دمشق بالقول: “من أجمل خانات الشرق، وأن شعباً فيه مهندسون لديهم الكفاية لتصميم مثل هذا الخان، وعمال قادرون على تنفيذ مثل هذا البناء لجدير بالحياة والفن”.
ويقع خان أسعد باشا في قلب المدينة القديمة، وسط سوق البزورية الشهير الكائن جنوب الجامع الأموي، في منطقة عريقة بشهرتها التجارية، حيث تكثر فيها الأسواق والخانات وتستقطب النشاط التجاري لدمشق.
وإضافة إلى مكانتها التجارية، يتمتع بشهرة سياحية واسعة بسبب وجود الجامع الأموي وقصر العظم وحمام نور الدين وعدد من المباني التاريخية الأخرى، بنى هذا الخان والي دمشق أسعد باشا إبن اسماعيل باشا العظم، واستغرق بناؤه سنة وشهرين.
يذكر أن بعض هذه الخانات اليوم لازالت قائمة لغايات تجارية، حيث يقيم فيها التجار محالاً تجارية، ومنها ماتضم مستودعات للبضائع، ومنها كخان أسعد باشا تتخذ كواجهة سياحية، وتشهد معارض وفعاليات ثقافية وتنموية متنوعة.