عاشق حلب.. العلامة “خير الدين الأسدي” في ذكرى وفاته
بيدٍ واحدة وبأربعة ألوان مختلفة، كتبت “موسوعة حلب المقارنة”، لصاحبها خير الدين الأسدي، بعد أن استغرق ثلاثة عقود من الزمن لجمع محتواها، فمن هو خير الدين الأسدي ؟
في واحد من أقدم أحياء حلب القديمة وهو”الجلّوم”، ولد الأسدي مطلع القرن العشرين وتحديداً في عام 1900، في بيت علم ودين ، وتلقى تعليمه في المدرسة الرضائية “العثمانية”، حيث تبحر في علوم اللغة العربية إلى جانب أصول الدين والفقه.
ويذكر الباحث وليد إخلاصي، في موسوعة “رواية اسمها سورية” عن العلامة الحلبي، “أسس الأسدي مكتبته الخاصة وهو لم يبلغ العشرين من عمره، وحرص على أن تضم أمهات الكتب والمخطوطات، لتوصف بأنها من أكبر الخزائن في سوريا ولبنان، وتشاء الأقدار أن يتخلى عنها بسبب ضيق الحال”.
ويقول الباحث ” كان الأسدي أول من خلع الطربوش في ذلك الزمان، رغم استنكار الناس واتهامه بالكفر والزندقة، كما انطلق في تدريس اللغة العربية التي يحب، وأرغم طلابه على التحدث بالفصحى “.
ويتابع الباحث “في عام 1923، كان العلامة على موعد مع حادثة غيرت حياته للأبد، حيث كان يقوم بتدريب طلابه في مدرسة “الفاروقية”، على أداء مسرحية بعنوان “الاستقلال”، وعندما جاء موعد العرض أحضر معه باروداً، ليجعل العرض أقرب للحقيقة فانفجر وأصيب بيده اليسرى إصابة بليغة، فقد على إثرها كفه”.
ويروي تلامذته عنه، كما يذكر الباحث، “رغم انطوائه وانكفائه بعد الحادثة، استمر في التدريس، ولم يكن يراقب تلامذته في الإمتحان بل كان يوزع الأسئلة ويترك الممتحنين دون مراقبة”، ويقول في ذلك “إن منح الثقة للإنسان ضروري لدفعه دوماً إلى الالتزام بالأمانة”.
وعن الموسوعة التي هي أعظم أعماله، قام الأسدي بتضمينها كل ما قيل تحت سماء مدينة حلب وفيها ولها من أمثال وحكم وحكايات وتهكمات وعادات ومعتقدات وخرافات، وألحقها بمصطلحات صناعتها وزراعتها وتجارتها وكذلك عن أسواقها وخاناتها وقراها مع تعليل سبب أسمائها”.
وينقل الباحث عن الأسدي قوله عن الموسوعة، “لن ينتظر قارئ موسوعتي أن امتدح بلدي وأسند لها ما لايقره الواقع، فأنا جهاز التصوير أصور القصر والكوخ كما هما عليه”، وكان فخوراً بإنجازه وبدقة معلوماته ووصفه رغم أنه لم يكتب له رؤيته مطبوعاً.
قضى الأسدي سنوات لينجز الموسوعة، التي أحصيت في سبع مجلدات من الحجم الكبير، وضم حوالي خمسين ألف كلمة حلبية دارجة، وأكثر من عشرة آلاف مثل وقدرت مصادر ومراجع الموسوعة ب 300 مصدر.
ويصف الباحث “عرف عنه شغفه بالتاريخ والآثار وغذى ولعه بالسفر حيث زار القدس في سنة 1946، وزار القاهرة وتركيا والعراق وايران وشمال افريقيا واسبانيا وعدة بلدان أوروبية، واطلع على مكاتبها وعلومها”.
ويتابع “وثق العلامة سوريا توثيقياً تصويرياً، وقدر عدد الصور التي جمعها في رحلاته ب 40 ألف صورة رتبها على حسب حروف الهجاء، وقاد بنفسه بعثة تنقيب في كهوف –تلة السودة- في حي المغاير باحثا عن ما يرشده إللا آثار الإنسان الحلبي الأول”.
بدأ وهو في الستين من عمره بتعلم اللغة السريانية، وغيرها من اللغات السامية كالعبرية والكلدانية، كما ألم بالإيطالية والفرنسية والتركية والأرمنية، وكان خبيرا باللهجة الحلبية وأصل الكلمات حتى أصبح مرجعاً.
وفي عام 1967 عقد الأسدي ندوات ثقافية على مدى أربعة أيام متتالية وكانت القاعة تمتلئ بالرواد، وكان له موعد إذاعي في برنامج بعنوان “أنت تسأل وأنا أجيب”، كان يجيب على أسئلة المستمعين بصوته المميز وثقافته العالية.
أصدر كتابه “حلب: الجانب اللغوي من الكلمة”، في الوقت الذي كان العمل على موسوعته الكبرى “موسوعة حلب المقارنة” مستمراً دون توقف، ” وكتاب ” يا ليل ” الباحث في أصل كلمة يا ليل ومنشأها وجاء كتاب ” أغاني القبة” وهي نفحات من الشعر الصوفي المنثور لتكون “جوهرة تاجه الأدبي”، كما يصفها الباحث.
قضى العلامة المتصوف أيامه الأخيرة مريضاً في دار للعجزة ، ولما استشعر دنو أجله، كتب مُوصياً بأغلى ما يملك-مكتبته- موجّهاً وصيته إلى محافظ حلب قائلاً: “لدي مكتبة تضمّ نفائسَ الكتبِ والمخطوطاتِ أهديها إلى بلدي والعالم”.
طلب الأسدي أن يقام له ضريحٌ يُكتب عليه العبارة التالية فقط: (خير الدين الأسدي)، ولسخرية القدر أنّ هذهِ الرغبة على بساطتها لم تُحقّق، ففي صبيحة 29 كانون الأول من عام 1971 ، وُجِد”محمد خير الدين أسدي” مُتكوّماً على نفسه في غرفته، مُحاطاً بأوراقه ومخطوتاته، وقد أسلم الروح.
وبحسب مصادر متعددة، “تهاونت المبرة في الإتصال بأصدقائه وأرسلته إلى مقبرة “الصالحين” مباشرةً، وجاء الخطأ بأن تمَّ تسجيل اسم “ضياء الدين أسد” بدلاً عن اسم “خير الدين الأسدي” في سجل مكتب دفن الموتى، فيبقى دون قبر ولا شاهدة.
“لقد سُقيت السكينة، وخُتم على شفتي، فشربت دم قلبي في صمت وسكون”، بهذه الكلمات قدم الأسدي لموسوعته، فكانت تأريخا” لمدينة عشقها حتى لقب “عاشق حلب”.
تلفزيون الخبر