مطعم “كريش” الحمصي.. شيش على الفحم بنكهة ذاكرة مدينة
لكل مدينة ذاكرة تتجلى في أرواح سكانها، وكثير ما يتم النبش فيها كمحاولة لاسترجاع اللطيف منها، سيما في تلك المدن التي انتهكت ذاكرتها بفعل الحرب بكل ما فيها من قبح وإجرام وسواد غطى على كل مفاصل الحياة السابقة فيها.
وينطبق ما سبق على مدينة حمص، فمثلاً لا يزال السؤال يتكرر على مسامع أهلها في البلاد وخارجها حول مكان انتزع مكانته لدى أهل المدينة وزوارها “كان في مطعم شيش وشاورما بالسوق.. نكهته مافي متلا.. بتعرفه؟”، فتحول من مجرد مطعم يقدم وجبات سريعة، إلى حالة مجتمعية جامعة وحية حتى بعد سنوات من إغلاقه.
تعود بداية بطل الحكاية “كريش” إلى نحو 30 عاماً، حين أسس الحاج الحمصي “أبو عمر كريش” مطعمه الواقع على الكورنيش الغربي لمدينة حمص وتقاطع حديقة سوق الدبلان، ليغدو لاحقاً بمثابة محطة أساسية للقادمين من خارج المحافظة وزوراها، والتي لم يشكل الأكل فيها يوماً أي علامة فارقة في هذا المجال إذا ما تمت مقارنته بمثيلاته الموجودة في المدن الأخرى لاسيما دمشق وحلب في ذلك الوقت.
وبعد أكثر من عشر سنوات على تأسيسه، شهد المحل الذي استمرت العائلة في إدارته، بعد وفاة الأب، عدة تطورات كتنويع وتجديد لأصناف الطعام المقدمة، وتوسيع المحل ليجد كل شخص من حشود الواقفين أمام سيخ الشاورما مكاناً للانتظار.
وقدم “كريش” لزبائنه الجائعين ميزة مشاهدة عملية تحضير اللفائف المختلفة أمام أعينهم، فترى أرغفة الخبز تتناقل بين العاملين الموزع كل منهم لمهمة ما، فهذا يدهن مايونيز كريش الشهير والآخر يضيف الخضار، ثم البطاطا، أو الدجاج أو الاثنين معاً، عدا عن صفوف الصاجات ومناقل الشوي على الفحم التي تخطف رائحتها المارين من الشوارع المحيطة بالمطعم، فتحرك لديهم رغبة الأكل واشتهاء ما لذ وطاب.
وكان “أكل السوق” في ذلك الوقت ممكناً لشريحة واسعة من الناس، حيث تراوح سعر المأكولات لدى كريش بين 35 ليرة لسندويشة البطاطا، وصولاً إلى 75 ليرة لفروج بروستد كاملاً، بحسب نشرة أٍسعار مصورة من المطعم قبيل الحرب بقليل، فترى في تلك الصفوف صورة تحتوي كل طبقات المجتمع اقتصادياً.
ولعل من أٌقسى اللحظات التي يمكن أن يعايشها أي زبون هي إجابة “منعتذر نفذت الكمية” التي كانت حالة شبه يومية للمطعم، بفرعه الأوحد في حمص، دون تكرار للتجربة في محافظات أخرى، وبقرار من أصحابه، بالرغم من كثرة العروض التي قدمت للعائلة، بحسب تصريحات صحفية سابقة.
وعايش “كريش” مرحلة منافسة من نظرائه في المجال، فحاول العديد من أصحاب المطاعم تقليد هذه التجربة، بل فتح محال مشابهة وقريبة جغرافياً منه، بل وملاصقة له في بعض الأحيان، لكن تفرد مشهد الازدحام والطوابير أمام “كريش” كان يعلن النصر في معركة غير معلنة.
أغلق “كريش” أبوابه مع السنوات الأولى للحرب، وانتقل فيما بعد إلى إمارة الشارقة في الإمارات العربية المتحدة، معلناً افتتاح سلسلة مطاعم هناك، حاولت السير على النهج الماضي، ورغم المحاولات والحفاظ على جودة المنتج وأسرار النكهة، والنجاح الحالي بتقييمات رواده على مواقع التواصل الاجتماعي، إلا أنه خسر جزئية نجاحه الأهم وهي “حمص”.
لين السعدي – تلفزيون الخبر