مامعنى أن يسكن الإنسان في “قارورة عطر”؟.. عن بيوت دمشق المكللة بالنارنج والكباد
يقول نزار قباني “هل تعرفون ما معنى أن يسكن الإنسان في قارورة عطر؟ بيتنا كان تلك القارورة”؟ فالأزهار والرياحين والنباتات العطرية التي تزرع فيه تجعل جوه معطراً بروائح فواحة، ولأن هذا البيت يوفر كل ما تحتاجه النفس، يقول قباني “هذا البيت استحوذ على كل مشاعري وأفقدني شهية الخروج إلى الزقاق”.
علماً أن الزقاق المؤدي إلى تلك القوارير لم يكن أقل بهجة منها وهي القابعة في دمشق القديمة، التي ينتشر فيها عبق التاريخ، والتي تخفي أبوابها خلفها بيوتاً تعد تحفاً معمارية أصيلة تميز بها البيت الدمشقي عن سائر البيوت، فبات رمزاً معمارياً.
فعلى جوانب الأزقة الضيقة تتناثر البيوت الدمشقية العريقة ذات الجدران العالية، مسندة أكتافها إلى بعضها بعضاً، ومتلاصقة، بيوت مبنية من الطين والحجارة، وبهندسة بسيطة وتكوين دقيق وتصميم فريد ناتج عن قرون من فن العمارة الشرقية تنتصب تلك البيوت فاتحة أبوابها الكبيرة للدخول عبر باب صغير في وسطها يسمى الخوخة.
زخارفه المتنوعة تعطيه مهابة وعظمة، لتنفذ إلى مدخل ضيق يتسع لشخص واحد، ينفتح هذا المدخل على باحة الدار التي تضم أنواع الأشجار (النارنج الذي يعطّر الأنفاس من أزهاره والمشمش والكباد والليمون) ودالية عنب تتسلق الجدران إلى السطح، والورود العطرية التي تجعل الجو يبوح بنسائم عطر تسر الداخل، كالياسمين الدمشقي الشهير والزنبق والفل.
وسط تلك الباحة التي تعرف “بأرض الديار” توجد بركة دائرية أو مضلعة بأضلاع منتظمة تسمى البحرة، يوضع عليها بعض أحواض الزهور والزينة، لها دور مهم في ترطيب الجو إذ تعطي البرودة في فصل الصيف.
أما أرضية الباحة تكون عادة مبلطة بحجر أسود بازلتي أو رخام ملون ومرتب على الأرض بطريقة فنية تعرف بالمشقف، وحول أرض الديار تتوزع الغرف المصممة بشكل يمنع الهواء، بجدران عريضة لمنع البرد والحر، ويوجد في البيوت الكبيرة “المربّع” وهو الغرفة المطلة على أرض الديار، وغرف عالية تسمى القاعات.
و تحوي الباحة أثاثاً فاخراً من “الأرابيسك” ومطعّماً بالصدف، جدرانها مزخرفة بأناقة وروعة لا تضاهى، وسطها بركة ماء تسمى “الفستقية”، وهي مفتوحة على إيوان مرتفع، هو غرفة فقط من ثلاثة جدران، ممتلئ بزخارف فنية مدهشة، وسقفه مزخرف بزخارف خشبية تسمى العجمي، مفتوح على الباحة الكبيرة، يرتفع عليها بما يقارب 40 سنتيمتراً، وتتدلى من الأسقف ثريات كحبال ذهب وفضة.
الطابق الثاني مخصص لغرف النوم التي يُصعد إليها عبر درج داخلي في طرف أرض الديار، والذي يتواجد تحته غرفة صغيرة، أسقفها تكون عادة من الخشب المحفور، ومعظم الأثاث ركيزته المجالس العربية وطاولاته مرصعة بالصدف، والنوافذ تفتح على صحن الدار لدخول الشمس، وعلى المشارق الكبيرة (المشرقة فسحة في الطابق العلوي) ولا تفتح على الطرقات بعض البيوت يحوي المندلون؛ وهو نافذة صغيرة للتواصل بين الجيران.
وتكون جدران هذه البيوت منقوشة بنقوش عمادها التناظر والتكرار وبمنمنمات متنوعة، والأرضيات الرخامية تزين بالفسيفساء. تقسم البيوت الكبيرة إلى ثلاثة أقسام: السلملك للرجال والحرملك للنساء والخدملك للخدم، توزيعها دقيق بشكل أنيق فخم يهتم بأدق التفاصيل، يسمح بدخول الشمس في كل الأوقات.
ويزيد عمر هذه البيوت على مئات الأعوام، فهذا النوع المعماري برز زمن العثمانيين في القرنين السابع عشر والثامن عشر حتى منتصف القرن التاسع عشر، لكن هذه البيوت بدأت تندثر وتختفي، فلم يبق منها إلا 14 منزلاً داخل الأسوار و77 منزلاً خارجها وفق إحصائيات لمحافظة دمشق.
و فرضت، منذ سنوات طويلة التجارة والاستثمار والأموال نفسها على هذه البيوت، حيث أصبحت مسرحاً للاستثمار والكسب المادي إذ جُعل كثير منها مطاعم، وصارت ملجأ لصناع دراما البيئة الشامية للتصوير فيها.
يذكر أن بعض من هذه البيوت أنقذت من همجية الاستثمار وأصبحت متاحف لتعريف الزوار بتراثها وعراقتها، كما خضعت لإشراف جهات حكومية أو لوزارة الثقافة، كبيت نظام ومكتب عنبر.
تلفزيون الخبر