فلاش

عائلات متعددة تحت سقف واحد.. الحرب التي فرّقت وجمعت

تحت سقف واحد وفي ظل الحرب والخوف والهرب من الموت، اجتمعت عائلات سورية معاً، إلى حين عودة لا يعلم موعدها أحد، يتقاسمون اللقمة والوجع والانتظار، ويتحايلون على الأيام الثقيلة بالامتنان لوجود هذا “السقف”.

ومع عودة ظاهرة اجتماع الأبناء وزوجاتهم وأولادهم في بيت العائلة، عادت الظواهر الاجتماعية الجميلة منها وتلك السيئة إلى البروز، فمن “فلكلور” قصص الكنّات والحموات والسلفات، إلى قصص نوم عائلة بأكملها في غرفة واحدة، والضيق وهرب الشبان خارج البيت والطوق وربما خارج الوطن.

تروي سمر، ابنة الثلاثين عاماً، قصتها التي تصفها بالمريرة، فتقول “قبل زواجي اشترط اهلي على خطيبي أن أسكن في منزل مستقل، وهذا ما حدث، حيث أنجبت طفلي الأول مع تدخل دائم من حماتي في كل صغيرة كبيرة ، فكيف اليوم وأنا أعيش معها في بيت واحد هو بيتها؟”.

وتتابع سمر “على مدى ثلاثة أعوام كان الوضع مقبولاً، فكنت مستقلة رغم التدخلات التي لا تنتهي، إلا أن الحرب والأوضاع الأمنية السيئة في المنطقة التي كنا نسكن فيها دفعتنا إلى اللجوء إلى منزل أهل زوجي لنسكن معهم في بيت واحد، وتبدأ المشاكل التي أوصلتني إلى طلب الطلاق”.

وتضيف: “في البداية بدأ التدخل من قبل أهل زوجي بكل شاردة وواردة تتعلق بي وبابني وزوجي، وطريقة لبسي وأوقات خروجي من المنزل، تحملت طويلاً على أمل أن نتمكن من استئجار منزل مستقل، لكن الأوضاع ازدادت سوءاً وأصبح الأمر شبه مستحيل”.

تعرّض منزل سمر وعائلتها إلى الدمار، وهي اليوم مضطرّة إلى الاستمرار بتحمل الوضع مع حماتها، تقول: “أتمنى أن أعيش في بيت مستقل وبحريتي ولو كان غرفة واحدة، ومع أن زوجي وحيد لأهله، ألقى منها أسوأ معاملة، وكأنني أحتل بيتها بعد أن سرقت وحيدها”.

وتبدو مشكلة سمر بسيطة أمام قصة ليلى، التي تحكي “وجدت نفسي بعد الحرب في منزل واحد مع حماتي وابنتها العازبة وثلاث سلفات (زوجات أخوة الزوج)، ولك أن تتخيلي الحالة”.

وبضحكة تخفي الكثير من الألم تتابع: “ننام ونصحو على المشاكل والقيل والقال، والمكائد التي لا تنتهي من قبل سلفاتي ليتمكنّ من الاستئثار بحب حماتي وكسب ودها، ولأنني بطبعي لا أحب المشاكل ولديّ عملي الخاص، أجد نفسي دائماً موضع اتهام في مشاكل لا دخل لي فيها أساساً”.

وتعقب: “زوجي عسكري، ويغيب لفترات طويلة وعندما يعود في إجازة أحاول ألا أزعجه بهذه المشاكل التي أعتبرها تافهة وتحدث في غيابه، لكن حماتي تشكوني دائماً بأشياء حدثت وأخرى لم تحدث، وأجد نفسي مضطرّة للدفاع عن نفسي”.

“الحالة صعبة، ولن نستطيع السكن مستقلين عن العائلة، فالأوضاع لا تسمح ومن المستحيل أن أسكن مع أهلي فليس لديهم القدرة على استقبالي وأولادي الثلاثة معاً، وليس لي إلا الصبر والتحمل”، تتابع ليلى.

أكثر ما يقلق ليلى هو مستقبل أولادها، وتقول: “في هذا الجو من المستحيل أن أستطيع تربيتهم كما كنت أتمنى وكما خططنا أنا وزوجي، فنحن ننام في غرفة واحدة، وكل خروج من المنزل يلزمه تقرير وتبرير وتحديد موعد للعودة، خاصة في فترة غياب زوجي”.

لم تعد الأسر الحديثة قادر على تحمل العيش في منزل واحد، كما كانت الأحوال سابقاً، والحرب وضعت السوريين أمام خيارات صعبة، ستنعكس على مستقبلهم ومستقبل أبنائهم، وهي التي كانت بالفعل سبباً لهجرة ونزوح العديد من الشباب والعائلات.

يقول أحمد، شاب في التاسعة عشر: “كنت طفلاً حينما لجأت وعائلتي إلى بيت عمي لنسكن مع أسرته الكبيرة، على أمل أن نعود إلى منزلنا خلال أسابيع، لكن الأسابيع طالت وأصبحت سنوات، ورغم معاملة عمي الجيدة وترحيبه بنا، كنا نشعر دائما بعدم الراحة أنا وأخوتي”.

ويضيف: “عندما كبرت قليلاً لم أعد أستطيع تحمل العيش بهذه الطريقة، خاصة أن منزلنا تعرض للدمار، ولم نعد نستطيع التفكير بالعودة قبل سنوات، الأمر الذي اضطرني إلى مغادرة المنزل، رغم المشاكل التي نتجت عن ذلك”.

يعتبر أحمد أنه “لم يكن لدي خيار، في البداية كنت أقيم لدى أحد من أصدقائي بالتناوب، ووصل الأمر حد نومي بالحدائق والشوارع، وأعرف كم سبب هذا الألم لعائلتي، الذين كانوا يتمنون أن أكمل تعليمي، لكنني لم أعد أطيق الاحتمال”.

من جهة أخرى تعتبر ابتسام أن “عودة أولادها للسكن في منزل العائلة كان شيئاً جيداً”، فهي تحتاج إلى الرعاية ووجود أحد بجانبها، بعد تقدمها بالسن وسكنها لسنوات طويلة وحدها بعد وفاة زوجها.

وتقول: “أشعر بالسعادة لدى رؤية أولادي إلى جانبي، فنحن نطبخ معاً ونأكل معاً، ونتقاسم الهموم والمشاكل ونحلّها سوياً، ورغم حزنهم على ضياع منازلهم، فمنزلي مفتوح دائماً حتى لأخوتي إذا أرادوا”.

على أن خيار منزل الأب أو الأخ أو القريب، لم يكن متاحاً لجميع السوريين الذين تركوا منازلهم تحت وطأة الحرب، فكانت المخيمات والمدارس في المناطق الآمنة، وغيرها من الأماكن التي تم تخصيصها للنازحين، والتي تفتقر بغالبيتها إلى الشروط الإنسانية، فجعلت النزوح خارج البلاد خياراً وحيدا للكثيرين.

ويعبّر هاني عن هذا الواقع فيقول: ” تركت منزلي في منطقة حرستا، ونزحت بداية إلى منزل أحد الأصدقاء في دمشق، لكنني في النهاية لم أجد بدّاً من السفر بعائلتي خارج الوطن، فلم يعد لي فيها سقف يأويني، فمنزل أهلي صغير ويكاد لا يتسع، وهكذا وجدت نفسي في بلد غريب وعلينا التأقلم حتى الله يفرجها”.

وتوضح أمل، باحثة اجتماعية وأخصائية في الإرشاد النفسي ” البيت يعني الأمان، وهو الحاضن الأول لكل أحلام الانسان وأفكاره وخططه ومستقبله، وفقدان هذا الأمان يعني انكسار الأساس الذي يبني عليه الشخص كل هذه الأشياء”.

وتشرح: “فرّقت الحرب أسراً وجمعت أخرى في ظروف صعبة، وكان لاجتماع العائلات في بيت واحد تحت ضغط الحاجة المؤقتة، آثاراً اجتماعية على الأهل والأبناء وبالتالي على المجتمع برمته، ليس أقلها جنوح الأبناء، الذكور منهم خاصة، ورفضهم التأقلم والعيش في هذه الظروف”.

“والنتيجة، ترك الكثيرين تعليمهم بحثاً عن فرص للعمل أملاً بتحسين وضع الأسرة، أو كما لوحظ ازدياد ظاهرة تزويج الفتيات في أعمار صغيرة، تخفيفاً للضغط الذي أحدثه السكن المشترك، بالإضافة إلى ازدياد حالات الطلاق وتشتت الأسر، لعدم احتمال الظروف المادية والمعيشية المترتبة على هذا السكن”، تتابع الباحثة.

آثار كثيرة تركتها الحرب في النفوس كما على الأرض، وآثار أخرى ستظهر لاحقاً نتيجة حتمية لما آلت إليه أوضاع السوريين الإنسانية والاقتصادية، فالسقف المؤقت ليس إلا أماناً مؤقتاً، ينتظر الفرج على طابور الانتظار الذي تعددت فصوله.

رنا سليمان _ تلفزيون الخبر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى