وداعاً أيُّها الرجل الشجاع .. الموت يغيّب بحّار الكلمة حنا مينة
“إن البحر كان دائماً مصدر إلهامي، حتى إن معظم أعمالي مبللة بمياه موجه الصاخب .. إذا نادوا: يا بحر أجبت أنا! البحر أنا، فيه وُلدت، وفيه أرغب أن أموت.. تعرفون معنى أن يكون المرء بحّاراً؟”.
غيب الموت بحار الكلمة، وحامل المصابيح الزرق، الأديب والروائي حنا مينة، الذي توفي صباح، الثلاثاء 21 آب عن عمر يناهز الـ 94 عاماً إثر معاناة طويلة مع المرض.
ونعى الفنان سعد مينة والده عبر صفحته الشخصية في “فيسبوك” قائلا “الكبير حنا مينا في ذمة الله …”، مرفقاً إياه بصورة له.
كما نعت وزارة الثقافة الراحل الذي يعد من كبار الروائيين العرب وأحد أهم رموز الرواية في العالم حيث رصد عبر أكثر من أربعين رواية على مدى نصف قرن قضايا الناس وانتقد فيها الاستغلال والجشع واضطهاد المرأة وتنبأ أن الرواية ستشغل المكانة الكبيرة لدى العرب وستصبح ديوانهم.
رحل الفقير الذي أحب الفقراء ونذر حياته لهم، “أنا كاتب الكفاح والفرح الإنسانيين، فالكفاح له فرحه، له سعادته، له لذته القصوى، عندما تعرف أنك تمنح حياتك فداء لحيوات الآخرين، هؤلاء الذين قد لا تعرف لبعضهم وجهاً، لكنك تؤمن في أعماقك، أن إنقاذهم من براثن الخوف والمرض والجوع والذل، جدير بأن يضحى في سبيله”.
أنهى مينة دراسته الابتدائية في سنة 1936 ووقف عندها، ولم يكن أحد حينها “يفك الحرف” في “المستنقع” الذي عاش فيه وكتب عنه روايته المشهورة الموسومة بالعنوان نفسه.
و عاش حنا طفولته في إحدى قرى لواء الاسكندرون على الساحل السوري، وفي عام 1939 عاد مع عائلته إلى مدينةاللاذقية مسقط رأسه، والتي كانت عشقه وملهمته بجبالها وبحرها.
كافح كثيراً في بداية حياته وعمل حلاقاً وحمالاً في ميناء اللاذقية، ثم عمل بحاراً على السفن والمراكب، كما اشتغل في مهن كثيرة أخرى منها الحلاقة ومصلّح دراجات، ومربّي أطفال في بيت سيد غني، إلى عامل في صيدلية إلى صحفي أحياناً، ثم إلى كاتب مسلسلات إذاعية للإذاعة السورية باللغة العامية، و عمل موظفاً في الحكومة، إلى أن شغل بالعمل الروائي.
بدايته الأدبية كانت متواضعة، تدرج في كتابة العرائض للحكومة ثم في كتابة المقالات والأخبار الصغيرة للصحف في سوريا ولبنان ثم تطور إلى كتابة المقالات الكبيرة والقصص القصيرة.
كان مينة يرسل قصصه الأولى إلى الصحف السورية في دمشق بعد استقلال سوريا حين بدأ يبحث عن عمل وفي عام 1947 استقر به الحال في العاصمة دمشق وعمل في جريدة الإنشاء الدمشقية حتى أصبح رئيس تحريرها.
وتمثلت البداية من خلال مسرحية دونكيشوتية التي ضاعت من مكتبته فنأى بعدها عن الكتابة للمسرح، كتب الروايات والقصص الكثيرة بعد ذلك والتي زادت على 30 رواية أدبية طويلة غير القصص القصيرة منها عدة روايات خصصها للبحر التي عشقه وأحبه.
كتب حنا القصص القصيرة في الأربعينات من القرن العشرين ونشرها في صحف دمشقية كان يراسلها، أولى رواياته الطويلة التي كتبها كانت (المصابيح الزرق) في عام 1954 وتوالت إبداعاته وكتاباته بعد ذلك، وتحولت الكثير من روايات حنا مينا تحولت إلى أفلام سينمائية سورية ومسلسلات تلفزيونية.
وكان لحنا مينة كبير الأثر من خلال رواية “نهاية رجل شجاع” التي حُوِلت إلى عمل تلفزيوني يأخذ له بأنه ساهم في إعلاء صوت الدراما السورية ومنحها التمييز في بداية التسعينيات وأصبح إلى وقتنا الحالي علامة فارقة في تاريخها.
وأسهم الراحل مينة بتأسيس اتحاد الكتاب العرب في سوريا ومن أبرز مؤلفاته .. والتي كانت الأولى “المصابيح الزرقاء” ، ولم يتوقف منذ ذلك الوقت، فأصدر “المستنقع” و”بقايا صور” و”القطاف” و”الدقل” و”الشمس في يوم غائم” والثلج يأتي من النافذة” و”الأبنوسة البيضاء” وغيرها من الروايات التي نالت حضوراً كبيراً في سبعينيات القرن الماضي.
ولعله أكثر الروائيين العرب الذين كتبوا عن البحر وارتياد المجاهل البعيدة والتعمد بمياه الأعماق والأجساد التي حرقتها الأملاح والشمس، وتعد ورواية “الياطر” من أبرع وأجمل روايات البحر في الأدب العربي، خلافاً لبعض رواياته التي كانت تكرر أجواء رواياته السابقة.
و منح البحرُ حنا مينة روايات أخرى مثل “الشراع والعاصفة” و”المرفأ البعيد” و”حكاية بحار” و”البحر والسفينة وهي” و”الدقل” وغيرها، و وأجاد مينا وصف حياة البحارة في مدينة اللاذقية وصراعهم على متن المراكب والسفن ومع أخطار البحر، بكثير من الصدق والعمق والمعاناة والكفاح والواقعية والحب والجمال.
و يمكن وصف حنا مينة بأنه أحد عمالقة الرواية في سوريا والوطن العربي، وهو الذي وقف في وجه الاستعمار الفرنسي وعمره 12 عاماً وعاش حياة قاسية، وتنقل بين عدة بلدان سافر إلى أوروبا ثم إلى الصين لسنوات لكنه عاد.
و اللافت أن الأديب الرحل كتب مؤخراً وصيته التي طلب بها أن لايذاع خبر موته وجاء فيها “عندما ألفظ النفس الأخير، آمل، وأشدد على هذه الكلمة، ألا يُذاع خبر موتي في أية وسيلةٍ إعلامية، مقروءة أو مسموعة أو مرئية”.
ويجدر السؤال ..كيف يمكن أن يمر غيابه هكذا دونما ذكر وهو السوري الحقيقي الذي نصبو إلى أمثاله في أيامنا هذه، و هو الرجل الشجاع البسيط الذي حرص على بساطته حتى في آخر أيامه.
أربعٌ وتسعون سنة من الشقاء والفرح ومقارعة الأيام العابثة ألقت بأحمالها على عاتق إنسان كحنا مينة، كان فيها الرجل العصامي، مناضل الحرف والكلمة والتوصيف والأسلوب العارف من يؤكل لحم كتف الحياة برواياته وواقعيته..فوداعاً أيها الرجل الشجاع.
روان السيد – تلفزيون الخبر