كاسة شاي

حزن على “العقل” في ذكرى وفاة “ سعيد “

قليلة هي المواقف في الحياة التي تقف مشدوهاً بمواجهتها، محتاراً أمام مشاعر مختلطة، كذكرى وفاة الرجل التي تغنى بدمشق شعراً إلهياً خالص الرؤى، ووقف لاحقاً إلى جانب أبشع عدو عرفه التاريخ في وجه قضيتك الإنسانية الأولى.

في الذكرى الثالثة لوفاة الشاعر اللبناني سعيد عقل، الذي توفي عام ٢٠١٤، بعد أن تجاوز المئة بعامين، قضاها في حب الشعر والوطن ، وختمها بـ “ خيانته “، نسترجع بعضاً من مواقفه، وشعره.

“سيف فليشهر”

بدأ “ عقل “ حياته كشاب متحمس للحزب السوري القومي الاجتماعي، والذي كتب قصيدته الذائعة الصيت (سيف فليشهر) والتي قرع فيها أجراس العودة وأعلن إيمانه بلفسطين، لم يطل به المقام حتى انقلب على “عروبته” وعلى “قوميته السورية”.

وأيّد عقل الاجتياح “الإسرائيلي” للبنان عام 82، كُرهاً بالوجود الفلسطيني المسلح، بل وكتب حينها في إحدى الجرائد يشكر القوات “الاسرائيلية” ويدعو اللبنانيين للقتال إلى جانبها.

“ لبننية “

عمل عقل في التعليم والصحافة، ولقب بالشاعر الصغير لأنه كان شاعراً منذ طفولته كتب في الشعر والنثر، وكان أول من سعى إلى الترويج “للغة لبنانية” بمعزل عن اللغة العربية، واقترح أبجدية لاتينية لكتابتها.

وأثارت مواقفه من “اللغة اللبنانية” جدلاً كبيراً، كما في مواقفه المناهضة للوجود الفلسطيني المسلح في لبنان، إبان الحرب الأهلية التي انقسم فيها اللبنانيون وتسببت بمقتل الآلاف.

“ سائليني يا شام “
بين سعيد عقل والشام كان ثمة علاقة خاصة، لها صدحت فيروز ستاً من قصائده، لعلها كانت أشهر أغاني فيروز في حب دمشق، وهي: “سائليني يا شآم”،” يا شام عاد الصيف”، “قرأتُ مجدك”، “شامُ يا ذا السيف لم يغب”، “نَسمتْ “، “مُرّ بي”.

وبعض من تلك القصائد كانت تنظم لترتفع بصوت فيروز على منصة معرض دمشق الدولي، موعد الدمشقيين السنوي مع فيروز، ولكن أبلغها نُظم في وقت سابق هي “سائليني يا شآم” التي غنتها فيروز قبل نحو نصف قرن.

يقال عن سعيد بأنه “كتب أجمل قصائد الغزل ولم يعشق بعد”، ترى هل أحب سعيد عقل دمشق، بالشكل الذي عرفناه في قصائده؟ هو أحبها على طريقته في الحب، حين يودّع فيه مساحة خاصة لا تخصه بقدر ما تخص الجميع.

شـآمُ أهلوكِ أحبابي، وَمَـوعِـدُناأواخِرُ الصَّيفِ، آنَ الكَرْمُ يُعتَصَرُ…
شَـآمُ يا ابنةَ ماضٍ حاضِـرٍ أبداً كأنّكِ السَّـيفُ مجدَ القولِ يَخْتَصِرُ…
حَمَلـتِ دُنيا عـلى كفَّيكِ فالتَفَتَتْ إليكِ دُنيا، وأغضَـى دُونَك القَدَرُ.

لسوريا .. لا لـ “ القومي السوري “

لم يكن سعيد عقل يحب الحديث عن علاقته بالحزب القومي السوري الذي انتمى إليه لفترة قصيرة في ثلاثينات القرن الماضي، شأنه شأن الكثيرين من مثقفي ذلك العصر.

وبغض النظر عن الجدال في شأن انتماء سعيد عقل إلى الحزب القومي السوري، فلقد ظل حب سوريا موضع اهتمام عنده.
بل إن فكرة القربى الروحية بين البلدين، لبنان وسوريا، ظلت ترنّ في أبياته، في قصائده الرائعة عن سوريا، التي غنّتها فيروز بألحان الأخوين رحباني، على رغم أن الشاعر كرس اهتمامه الأكبر إلى لبنان الفينيقي، وكان من أشد دعاة “القومية اللبنانية”.

يستهل الشاعر قصيدة “سائليني” بالمودة الفائقة: سائليني حين عطـّرتُ السلامْ/ كيف غار الوردُ واعتلّ الخزامْ/ وأنا لو رحت أسترضي الشذا… لانثنى لبنان عطرا يا شآمْ”.

ومن أبياتها: “حُرُماتٌ بيننا أنقى سنىً… من ذرى الحرمون أو طهر الغمامْ/ قد سقينا بالدم المجد معا… ومعا خضنا المجالات الكرامْ” (…) “قل لذاك الليث في آجامه: واحدٌ نحن إذا الشام تـُضامْ” (الليث هو سلطان باشا الأطرش).

قمة حرمون، أو جبل الشيخ، ليست مجرد نقطة التقاء جغرافي، بل هي النقطة الجامعة، كما يردد سعيد عقل في قصيدة “شآم يا ذا السيف”: “ثلجُ حرمونَ غذانا معاً… شامخاً كالعزّ في القببِ/ وحّد الدنيا غدا جبلٌ… لاعبٌ بالريح والحقب”.

وفي هذه القصيدة أيضاً: “أنا صوتي منك يا بردى… مثلما نبعك من سحبي (…) و”شآمُ، أهلوك إذا هم على نُوَبٍ… قلبي على نـُوَب”.

للعرب .. لا للقومية العربية

اشتهر سعيد عقل بموقف سلبي من “القومية العربية” تردد صداه في موقفه من اللغة العربية الفصحى، اعتبر أن كل لغة غير محكية هي لغة ميتة، وأن اللغة العربية الفصحى هي كاللاتينية لا يتحدث بها أحد، وإنه لمحقّ في اعتبارها غير متداولة، لكنها في الواقع لا تزال لغة الكتابة والأدب.

ذهب سعيد عقل إلى حد اعتبار اللهجة العامية اللبنانية لغة، وكان يريد أن يتم الاعتراف باللغة اللبنانية المحكية، لكنه يعلم أن اللغة لا يكفيها أن تكون محكية، بل مكتوبة أيضاً، لذلك نحت لها ألفبائية مستوحاة من الأحرف اللاتينية، معدّلة لتستوعب المصوّتات غير الموجودة في اللاتينية مثل الضاد والصاد والقاف والعين والغين.

جلب هذا المشروع لصاحبه غضب الكثيرين في العالم العربي، إذ اعتبروا الأمر مساساً بالجانب المقدس في اللغة العربية، ولم يحظ بتأييد عموم اللبنانيين، على الرغم من صدور كتب بهذا الحرف وديوان للشاعر نفسه “خماسيات”.

ومع ذلك، ومن تناقضات “ عقل “ التي اشتهر بها، أن في قصائده السورية نفحات “عروبية” أشهرها قوله في “سائليني”: “ظمئ الشرق فيا شام اسكبي… واملئي الكأس له حتى الجمامْ/ أهلك التاريخ من فضلتهم، ذكرهم في عروة الدهر وسام/ أمويون، فإن ضقت بهم، ألحقوا الدنيا ببستان هشام”.

القضية الفلسطينية .. من “ الأجراس “ إلى “ العار “

من أكثر المواضيع إثارة للجدال في مواقف سعيد عقل السياسية، آراؤه في القضية الفلسطينية، وكما في غيرها عنده، انتقلت من نقيض إلى آخر، حتى لا يكاد المرء يصدّق أن قائل القولين هو الشخص ذاته.

في خريف 1968 صدرت أسطوانة تضمنت أغاني فيروز عن فلسطين، عنوانها “القدس في البال” وكانت الكلمة على غلاف الأسطوانة بقلم سعيد عقل، وفيها: “شعوب بأسرها تغنّي مع الجيوش المتلهفة إلى اليوم العظيم، يوم إحقاق الحق، هذه الأوجاع والمناجاة والجراح السائلة كالدماء وكدموع الغضب. “اليوم وليس غداً” سنستمر نهتف حتى يشاء الله وتستجيب البطولة، وسيبقى الحنين والنبل والشهامة ملحمة بإرادة انتصار الحق. إن الحق جميل كالحب”.

قبل ذلك، في أيلول 1966، غنّت فيروز في دمشق “أجراس العودة”، القصيدة التي كتبها سعيد عقل: سـيـفٌ فـلـْـيـُـشـْهـَـرْ في الدنيا، ولتصدع أبوابٌ تصدعْ/ الآن الآن وليس غداً… أجراس العودة فلتقرعْ/ أنا لا أنساك فلسطين، ويشدّ يشدّ بي البعدُ/ أنا في أفيائك نسرين، أنا زهر الشوك أنا الوردُ/ سندكّ ندكّ الأسوارا، نستلهم ذاك الغارْ/ ونعيد إلى الدار الدارا، نمحو بالنار النارْ/ فلتصدع فلتصدع/ أبواقٌ أجراسٌ تـُـقرَع / قد جـُـنّ دم الأحرار”.

بعد عشر سنين، في حزيران 1977، أقيم في زحلة مهرجان تأبيني للشاعر الزحلي المهجري شفيق المعلوف، ألقى فيه سعيد عقل إحدى روائع شعره المنبري، ولم يفته وهو يتكلم على صاحب “عبقر” أن يتطرق إلى الحوادث السياسية الراهنة. وكانت “حرب السنتين” (كما سميت آنذاك) قد وضعت أوزارها.

شهدت هذه القصيدة بداية تحول سعيد عقل من مناصر للقضية الفلسطينية إلى معارض لها، تكلم فيها عن انتصار لبنان على “الدخيل” (المنظمات الفلسطينية). وأعاد التعبير نفسه في بيت آخر: “لوحده في العداوات الدخيلُ، جرى بباله غصْبُ أرضٍ تربها الطهُرُ (…) بلى سنبقى، ويبقى فوق صخرته لبنان، قهّار من ما غيرهم قـُهروا/ وقال من خطر نمضي إلى خطر؟ ما همّ… نحن خُلقنا بيتنا الخطرُ”. “ومن ما غيرهم قهروا”، هم مقاتلو المنظمات الفلسطينية.

في ١٩٨٢” وقت الاحتلال “ الاسرائيلي “ للبنان، أعطى سعيد عقل التلفزيون” الإسرائيلي “ حديثاً، طالباً من رئيس حكومة العدو مناحيم بيغن (لقـّبه بالبطل) “أن يكمل تنضيف لبنان من آخر فلسطيني”.

وفيما أشاد عقل بالجيش “ الإسرائيلي “ مسمّياً إياه “جيش الخلاص” انهال على الفلسطينيين بالهجوم العنيف واصفاً إياهم بالعصابات الإرهابية المسلحة. طاف شريط الفيديو الذي يتضمن هذا الحديث العالم العربي وزاد انتشاره بعد رواج الـ”يوتيوب”، واعتبر موقف الشاعر فيه بمثابة العار.

تلفزيون الخبر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى