ليس مقالاً صحفياً وليس حديثاً عن فوضى السلاح في حلب
لنبدأ كما يجب أن نبدأ، المقدمة: في مدينة نهضت أو تحاول النهوض من تحت الركام، حرفياً لا مجازياً، حلب المدينة المتربعة على عرش التاريخ، سيدة المدن التي صمدت وتكسرت على صخرة إرادة حياة أبنائها أحلام تتار الحاضر ومغول العصر، سبع سنوات مضت نقف معها أمام مرآة الواقع لا جردات حساب حقيقية فيها حتى الآن، تبدو للناظر من بعيد شامخة بحجم تاريخها.
وما هذا! الحشو السابق؟ والذي كتب مقدمة لماذا؟ وهل المطلوب الآن كتابة مقال صحفي يحمل بيانات عن حجم ما دمر في حلب وحجم الخسائر فيها؟ لنكمله في سرد ما أنجز بشكل خجول في مرحلة إعادة إعمار محكومة بواقع خدمي ومعيشي سيء؟
هذا جيد، وسهل أيضاً لو كانت البيانات متاحة! إذاً فالمطلوب أن نحكي عن شح البيانات! عن الجهات الحكومية التي لا تشاركنا أرقاما ً تدلل على حجم ما خسرت المدينة وحجم ما أنجز من عمل؟ عن الصعوبات والعقبات؟ من يريد ما سبق! للحقيقة لا أحد.
إذاً سنحكي عن الماء والكهرباء في عاصمة الصناعة، هل نبدأ؟ سيخبرك كل من في حلب أنهم اليوم لا يحتاجون ماءً، ولا كهرباء، مطالبهم الاساسية اختلفت! وحاجاتهم للإنتاج، كأبناء مدينة منتجة اختلفت.
لن يضرهم بطبيعة الحال مزيد من الكهرباء ولا الماء، وتعبيد شوارع مدينتهم بعيداً عن خط سير الجولات الحكومية بين الفينة والأخرى لن يزعجهم.
لكن حديثك مع أحدهم سيقاطعه “مشط رصاص”، ستلتفت مستغرباً، سيهدئ الحلبيون من روعك كما فعلوا طيلة سنوات الحرب والحصار! وما إن يشاهدوا أي دليل على مصدر الرصاص سيعطونك تقريراً مفصلاً عن تبعيته، من خلفه، من أمامه، من يدعمه.
تحملك الذاكرة خطفاً نحو الوراء، سقوط حلب، صمود حلب، قناصة، مدفع جهنم، قذائف الموت، انقطاع الطريق، فتح الطريق، خناصر، أثريا، افتتاح الطريق، حصار، تحرير حلب! وتقفز البيانات أمامك مجدداً، كم شهيداً سقط في الطريق إلى حلب، وفيها! كيف صمدت المدينة الجميلة وماذا تنتظر لتتعافى!
ولماذا إذاً! كيف يخبرك كل حلبي اليوم، المقيم فيها والعائد إليها والزائر، أن “الفوضى” هي أكبر مخاوفه! كيف لمن كان يخبرك بنوع السلاح الذي يستهدفه، ضاحكاً، من لحظات توترك، ومؤكداً لك أن “ما حدا بيموت ناقص عمر”! كيف يخبرك بنفسه أنه بات اليوم يخشى على حياته وأن عليك بدورك أن تحذر!
لنُعرّف إذاً ما يحصل، فإن كانت المادة (1) في قانون مكافحة الإرهاب (19) لعام 2012 في تعريف العمل الإرهابي أنه “ كل فعل يهدف إلى إيجاد حالة من الذعر بين الناس أو الإخلال بالأمن العام … ” فماذا يسمى إذاً ما يحدث في حلب؟
“فلتان أمني غير مسبوق” عبارة تتكرر على مسامعك في حلب اليوم، سلاح متفلت ينتشر في كل مكان، هي ليست شيكاغو بطبيعة الحال، ولنضع الأمور في نصابها، فإن السلاح في مدينة حلب المنفتحة على أريافها بخلفياتها العشائرية ليس أمراً طارئاً.
لكنه اليوم، ومع تكرار الحوادث التي لا تخفى على أحد كيفما أدرت وجهك، بات ظاهرة تضع المدينة والسلطات المحلية فيها اليوم في مواجهة حرب غير معلنة ليست ضد الإرهاب ذاته الذي صمدت المدينة في وجهه، بل ضد فوضى وإرهاب يضرب في عمق النسيج الاجتماعي، ويهدد بما هو أخطر من ذلك.
ليس الحديث بالطبع عن ثلاث حوادث إطلاق نار من قبل “زعران” في أماكن عامة شهدتها حلب خلال الأسبوع المنصرم فقط، ووثقت بالصور والفيديو.
ونشر صحفيون حلبيون ونشطاء تفاصيلها عبر فيسبوك! بستان الزهرة، الفيض، الأعظمية، أحياء حلبية شهدت إقدام مجموعة من المسلحين على إرهاب مواطنين يكابدون الحياة ضمن ظروف اقتصادية صعبة، عبر إطلاق وابل من الرصاص والشتائم المتطايرة في كل اتجاه.
وليس الحديث أيضاً عن شابة ورجل على الأقل فقدوا حياتهم أو كادوا في حوادث إطلاق رصاص احتفالي بمناسبة نجاح مرشح ما أو أكثر في انتخابات مجلس الشعب، كما أنه ليس عن شارع ما أغلقه مسلحون تابعون لشخص ما، بشكل دائم أو مؤقت، ومنعوا السيارات من المرور فيه لأنه “للمعلم”! ولا إشارات المرور المستباحة!
آلاف المشاهدات حظيت بها مقاطع فيديو وصور نشرها صحافيون وناشطون، مع نمر سيارات الجناة! ربما شاهدها كل سكان المدينة، عدا مسؤوليها، فالحوادث تتكرر وإرهاب المواطنين مستمر!
أين دور المحافظ والسلطات المحلية في ضبط السلاح وهل يعيش مسؤولوها في عالم مواز؟
يكفي سؤال أي مواطن حلبي، ليخبرك في كل حادثة من هو “المعلم” ومن “هؤلاء”، بل وسيخبرك لمن يتبعون، متى كان سلاحهم موجه لمكانه الصحيح، ومتى انحرفت بوصلته! ومتى تحولوا لعبء حتى على “معلميهم”.
معلومات موجودة على الأرض لمن يريد أن يبحث عن إجابات ومن ثم حلول لمساعدة المدينة التي كانت إلى أمد قريب عاصمة الاقتصاد السوري وعاصمة الشمال التي تنتظر الوقت المناسب لتطلق لنفسها عنان العمل!
تتحمل السلطات المحلية المسؤولية الكبرى في ضبط السلاح المتفلت، خاصة وأن أصواتاً قليلة خرجت لتتكلم عنه، ولتوصفه بعيداً عن كونه حوادث فردية طبيعية في مجتمعات ما بعد الحروب! فالسكان كانوا يتفهمون طبيعة السلاح، وتواجده داخل المدينة حتى، لكنه اليوم بات يشكل خطراً حقيقياً لأنه موجود في غير مكانه.
ولا يبدو في المدى المنظور أنه تم وضع آلية واضحة للحد من السلاح المنتشر كيفما اتفق في أرجاء المدينة، ولم يلمس أهلها محاسبة صارمة رادعة تضع حداً لممارسات لا تهدد حياة أبناء حلب وزوارها فقط، بل تهدد سلمها الأهلي بشكل واضح لا لبس فيه ولا يتجاهله إلا جاهل بطبيعة المدينة ومن يملك “السطوة” فيها اليوم.
بدها حل من الشام!
“بدها حل من الشام” تسمع هذه الجملة كثيراً على لسان أبناء المدينة، وهي تعكس بطبيعة الحال، انعدام الثقة بمسؤوليها المحليين، دائماً وعلى مدى السنوات الأخيرة، قضايا الفساد الكبيرة في المدينة، وضع حد لمتغولي وأمراء الحرب، سرقات واختلاسات وسوء إدارة، كلها حلت من قبل السلطات المركزية في دمشق، في غياب أي معالجة حقيقية من قبل مسؤولي المدينة.
وليس الحديث هنا عن “استيراد” حل من دمشق لأن “مزمار الحي لا يطرب”، بل لأن “قربة الحلبيين مثقوبة” لدى مسؤوليهم المحليين، ولأن حجج طبيعة المدينة وتركيبتها الخاصة لم تعد تقنعهم، فهم أدرى بشعابها، وأعرف بأحوالها، وأعلم من غيرهم بأن “ظاهرة الحوادث الفردية” باتت عبئاً ثقيلاً على كل من تُحمّل على أكتافه مؤخراً.
يدرك الحلبيون أن لا أحد من “المعلمين” ، على حد تعبير الحلبيين، لديه رغبة بأن يحمل فوق ظهره دماءً بريئة تسيل مجاناً، دماءً دفع رجاله منذ أمد ليس ببعيد، دماءً ثمينة لحمايتها! فلماذا تسيل اليوم مجاناً! وكرمى لماذا هذا الصمت! وإلى متى سيغطى الجمر برماد تبويس الشوارب ولمصلحة من هذه “المطمطة”!
بقلم رئيس التحرير عبدالله عبدالوهاب
تلفزيون الخبر