أصدر خمس صحف أغلقها العثمانيون .. الصحفي عبد الغني العريسي أحد رجالات 6 أيار
“بلغوا جمال باشا أن الملتقى قريب، وأن أبناء الرجال الذين يقتلون اليوم سيقطعون في المستقبل بسيوفهم أعناق أبناء الأتراك، إن الدول لا تبنى على غير الجماجم وإن جماجمنا ستكون أساساً لاستقلال بلادنا”، تلك هي الكلمات التي رددها أحد شهداء 6 أيار الصحفي عبد الغني العريسي.
من بين الشهداء الذين قام جمال باشا السفاح بإعدامهم على حبل المشنقة في لبنان وبيروت هناك 16 شهيداً من الصحفيين، ويبرز من بينهم اسم الصحفي عبد الغني العريسي، الذي قامت سلطات الاحتلال العثماني قبل إعدامه بإغلاق أكثر من خمس صحف قام بإنشائها.
واشتهر عبد الغني العريسي بإنشائه لصحيفة المفيد اليومية بدءاً من عام 1909، والتي طالتها يد المحتل العثماني بالإقفال غير مرة، لكونها منبراً اتخذه العريسي لمهاجمة العثمانيين والمطالبة بالاستقلال وبالحقوق العربية وإحياء القومية العربية التي حاول العثمانيون قتلها.
وبدأ عبد الغني العريسي بصحيفة “المفيد” اليومية التي شن فيها حملات على سياسات العثمانيين وطالب بالإصلاح السياسي وبإعطاء العرب حقوقهم، فيما كانت عين المحتل التركي تحمر يوماً بعد الآخر على العريسي وصحيفته، حتى وصلت ذروتها في أواخر أيار 1912 حيث قامت بإغلاقها.
عدة أيام فقط احتاجها العريسي ليصدر صحيفة باسم آخر، ففي 30 أيار 1912 بدأت صحيفة “صدى المفيد” التي استمرت لأعداد قليلة قبل أن تعاود “المفيد” إصداراتها التي عادت سلطات الاحتلال العثماني لإيقافها في أيلول من نفس العام بعد 1082 عدداً.
وصدرت بعد أيام قليلة صحيفة باسم “لسان العرب” وحمل العدد الأول منها رقم 1- 1083″ في إشارة إلى استكمال مسيرة “المفيد”، وافتتحها العريسي بمقال شغل الصحفة الأولى كاملة تحت عنوان “باسم العرب نحيا وباسم العرب نموت”، هاجم فيها الأتراك بقوة، فاستمرت بالصدور لثلاثة أعداد فقط وتم إغلاقها في أواخر أيلول 1912.
وكعادة العريسي، أيام قليلة وبالتحديد في 28 أيلول ظهرت صحيفة جديدة تحت اسم “الفتى العربي” واستكمالاً لمسيرة “المفيد” أيضاً حمل عددها الأول رقم “1-1086″، وظلت تصدر لعدة أشهر قبل أن يعاد افتتاح “المفيد” والتي أعاد الأتراك إغلاقها في أواخر كانون أول من عام 1913.
واستمر العريسي بعناده وأصدر في 15 كانون أول من عام 1913 صحيفة تحت اسم “فتى العرب” وأيضاً حمل إصدارها الأول رقم “1-1435″، واستمرت “فتى العرب” بالصدور حتى أواخر أيلول من عام 1914، وآخر عدد موثق هو “229-1663” الصادر يوم 25 أيلول 1914.
ثم عادت “المفيد” للصدور في أواخر أيلول من عام 1914، وتغير لسان حال الصحيفة بتغير لسان حال مالكها الذي آثر الوقوف مع الدولة العثمانية المحتلة في الحرب العالمية الأولى مرجحاً الاستقلال بعد الحرب بجهود أبناء البلد على أخذه بالقوة بجهود الآخرين التي لن تكون خدماتهم مجانية بالتأكيد، وكانت آخر عدد موثق من “المفيد” يحمل رقم 1709 صادر في 15 تشرين الثاني 1914.
ويحسب للعريسي أنه استشرف الخطر الصهيوني منذ عام 1912 حيث عنونت صحيفة “المفيد” إحدى تقاريرها باسم “الصهيونيون في حيفا”، والذي أشارت فيه إلى الخطر الصهيوني والمد اليهودي الذي بدأ يظهر في فلسطين على حساب العنصر العربي، قارئاً للواقع بقوله “ولا ريب بأنه سيأتي علينا يوم إذا استمر الحال على هذا المنوال يصبح العربي في بلده أضيع من الأيتام على مأدبة اللئام”.
ويعرف عن حياة العريسي، الذي له شارع باسمه في مدينة حمص، أنه مولود في لبنان، وهناك اختلاف على تاريخ ميلاده، ويرجح كثيرون أن يكون في حوالي عام 1891 أو أبعد، ذلك أنه أعدم في 1916، ومن غير المعقول أن تكون حياة العريسي فقط 25 عاماً، الذي درس في مدرسة “المقاصد الاسلامية” ثم تخرج من الكلية الاسلامية في بيروت.
وشهدت حياة العريسي أهم أسفاره إلى باريس حيث بدأ بدراسة العلوم السياسية، وما لبث أن تركها واتجه نجو دراسة الصحافة، فهو على رأي مؤرخ الصحافة العربية فيليب طرازي في كتاب تاريخ الصحافة العربية، ج 4 ص 14، يصفه بأن “نفسه نزعت إلى الصحافة منذ الصغر، فسافر إلى أوروبا وتعلّم أصولها في المدارس المختصّة بهذا الفن”.
وخلال إنشائه لصحيفة المفيد كان العريسي في باريس وعاد إلى بيروت عام 1913 حيث بدأت حينها صحيفته بالهجوم بشكل أكبر وأعمق على سياسات حزب الاتحاد والترقي العثماني والذي حاول شراء العريسي وصوته بعد أزمة مالية وقعت بها الصحيفة واستدعته للآسناتة وحاوره قياديون في الحزب العنصرب العثماني دون جدوى.
وكان العريسي ناشطاً سياسياً معروفاً، حيث كان من أوائل المنتسبين إلى جمعية العربية الفتاة في عام 1912 في باريس، وساهم في تأسيس نادي الحرية والائتلاف في بيروت في 4 أيلول 1912، كما ساهم في تأسيس جمعية بيروت الإصلاحية أواخر نفس العام، وانضم لحزب اللامركزية الإدارية الذي أعدم بتهمة الانضمام إليه، وساهم في انعقاد المؤتمر العربي الأول في حزيران عام 1913.
ويروي المفكر الفلسطيني ناجي علوش في كتاب جمع فيه مختارات من “المفيد”، أنه “عندما صدر حكم الإعدام غيابياً على العريسي ورفاق له، عمر حمد وعارف الشهابي وتوفيق البساط، من قبل المحكمة العسكرية العثمانية، آثروا الهرب”.
وأضاف المفكر أنه “فيما كان الاربعة راكبين قطار سكة حديد الحجاز، توقف القطار، بهم للاستراحة في مدائن صالح، وهناك اوقفوا بعد ان شك البعض بأمرهم وانكشفت شخصياتهم واعيدوا الى مدينة عاليه في لبنان حيث حوكموا مجدداً، وصدر الحكم بالاعدام”.
وبحسب ما تنقل الروايات، تم تنفيذ حكم الإعدام بحق العريسي بسرعة وبمحاكمة صورية هو ورفاقه بتهمة التآمر مع دول أجنبية ضد السلطة العثمانية.
وذُكر أن عبد الغني العريسي طلب أن يخرج من الديوان العرفي بعالية إلى ساحة البرج في بيروت، وأن يعدم مع رفيقيه الأمير عارف الشهابي وعمر حمد، فخرج الثلاثة ينشدون “نحن آبناء الألى سادوا مجداً وعلا”.
ويرى ناجي علوش أن العريسي تنازعته أربعة تيارات متداخلة ومتعارضة هي: الاتجاه القومي العربي، الاتجاه الاسلامي، الاتجاه العثماني، والفكر الاوروبي الحديث.
ونقل الصحفي اللبناني ابراهيم العريس في إحدى مقالاته أن “عبد الغني العريسي على رغم قصر حياته، كان غزير الانتاج، ودرس الثورة الفرنسية وتبنى افكارها الاساسية وخاصة شعار “حرية اخاء مساواة””.
ولم يخف العريسي تأثره بالثورة الفرنسية وإعجابها بالفلاسفة الفرنسيين بشكل خاص والأوروبيين عموماً، وقام بترجمة بعض الفصول من كتاب حضارة العرب للكاتب “غوستاف لوبون” على صفحات صحيفة “المفيد”، منها فصلي “العرب في الأندلس” و”تحضير العرب لأوروبا وتأثيرهم في المشرق والمغرب”.