12 عاماً على انطلاقة تلفزيون الخبر.. ماذا يمكن أن نقول اليوم؟
يصعب على الصحفي أن يقول إن هذا ليس وقت الكلام هذا وقت العمل، ولكن ذلك هو الحال دوماً في تلفزيون الخبر، حتى وإن كان الكلام عملك، لم يكن لدينا وقت يوماً للكلام، في كل يوم كنّا نقول، هذا ليس وقت الكلام هذا وقت العمل.
أن تحمل قضية ما، لا يعني أن هنالك طريق واحد يجب عليك أن تسلكه، دائماً يوجد أكثر من طريق، لكن المؤكد أن الطريق يجب أن يكون متناغماً، ومنسجماً مع القضية، و “الميكيافيللية” هنا ليست خياراً مناسباً عندما تكون القضية إنسانية حكماً.
اليوم، تمضي 12 عاماً على الاجتماع الأول الذي رسم خطوط تلفزيون الخبر الأولى، الجلسة الطويلة، التي خُربِشت أفكارها بأقلام الرصاص ونُقِلَت مُخرجاتها بكثير من الألوان.
لأخبركم الحكاية مجدداً
12 عاماً ليس عمراً طويلاً، هو غير كافٍ لنصبح عجائز تهوى تكرار الحكايات على الأحفاد، الأبناء، الجيران، المارة، والغرباء. لكنه في بلد أنهكته الحرب، وعصرته مفرزاتها، وجففت المعطيات باجتماعها أحلام أبنائها، يصبح تكرار الحكايات واجباً، كي لا نَنسى!.
كنت، خارجاً لتوي (مع فريقي) من تجربة منحتها عمري لمدة خمس سنوات كاملات، بأيامها ولياليها وأحلامها وحروبها، تركت موقع “عكس السير”، وقد بات الموقع السوري الأول، لأبدأ رحلة جديدة رهانها “الرهان على العقل السوري” في زمن كان نسغه “الغريزة”.
تحمل تجربة تلفزيون الخبر الكثير من الذاتية والشخصية، إلى جانب الكثير الذي تحمله من المهنية، وتحمل في كل مفصل منها ومع كل عبور جديد، تجديداً لخربشات قلم الرصاص ذاتها في الاجتماع الأول.
كيف يمكن أن تحافظ على خطوطك ذاتها طيلة 12 من الأعوام القاسيات اللواتي قَلبن الواقع وتوقعاته وركائزه، وغلّبن أصوات الطبول على الكمنجات.
في تلفزيون الخبر كان الأمر على صعوبته بسيطاً، جاء رجوعاً دائماً إلى أنك قد لا تعرف ما تفعل في هذه اللحظة، لكنك من المؤكّد لم تُضِع بوصلتك لتنسى ما لا يجب أن تفعله أو تكونه أبداً.
وفي تلفزيون الخبر، لم نكن يوماً على استعداد لنخاطب الغرائز أو نكون رُكّاب موجة أو أن نضع رهاناً على حصان رابح دون أن نسأل كيف سيربح! أو نركض مع الراكضين دون أن نتنبه أين نضع أقدامنا وعلى ماذا ندوس؟.
لم نضع أنفسنا يوماً رقباء على عقل المتلقي ولا أوصياء على معلومته وتحليله، وشعارنا كان دائماً هو الأحرف الأولى في أي ورشة تدريبية كنا نقيمها “المتلقّي ذكي لكنه جاهل بالمعلومة” ومهمتنا تكمن في إيصال المعلومة بالشكل الصحيح.
لم نسابق الزمن بحثاً عن عاجل أو هام أو حصري قبل أن نسأل أنفسنا “ماذا من متى أين كيف؟” ودائماً كنّا نحفر عميقاً لنسأل أيضاً لماذا؟! وكثيراً ما كنّا نضع “خبطتنا” جانباً لأن الأجوبة على الأسئلة السابقة، أو أحدها، كانت ستهز يقيننا أمام أنفسنا وأمام ما حمّلناه لأنفسنا من مسؤولية.
12 عاماً درّبنا خلالها المئات من الشباب، كان تلفزيون الخبر بالنسبة لمعظمهم نقطة الانطلاقة الأولى التي علمتهم، ألف باء الصحافة، انضم بعضهم لفريق عملنا، غادرنا بعضهم وأكمل معنا بعضهم الآخر الدرب.
أكثر من 50 شاباً وشابة ممن دربهم تلفزيون الخبر يعملون اليوم في كبرى المؤسسات خارج سوريا وداخلها، وأسس بعضهم مشروعه الخاص وشق طريقه يحمل رسالته الخاصة.
دعمنا في تلفزيون الخبر أكثر من 400 مبادرة مجتمعية وثقافية وإنسانية، لمؤسسات وفرق وأفراد، وكنّا شركاء مع عشرات منها في مشاريع حملت للواقع السوري تغييراً وشكّلت الحصى التي سندت جرّاته في مواقع عدة.
جمَعَنا ولا يزال شراكات بأشكال مختلفة مع عدة وسائل إعلام محلية ومع صحافيين مستقلين، أضفنا لهذه الشراكات وأضافت لنا، لنمارس بهذه الاستراتيجية جزءً من قناعتنا بأن الساحة الإعلامية السورية قطعة “بازل” كبيرة هي بدورها جزء من “بازل” أكبر هو المشهد السوري المحتاج للانفتاح على الآخر، وليؤدّي كل منّا فيه دوره بالعطاء والعمل من مكانه.
حمل تلفزيون الخبر كتحدٍّ ومشروع مرضٍ للأنا الشخصية والمهنية الكثير من التفاصيل، التحديات، الصعوبات، العمل والشغف، كما حمل كثيراً من المتعة.
ترفّعنا في مشروعنا عن المهاترات وابتعدنا طويلاً عن الـ”خبطات” بمعناها “السوقي” الذي كرّسته الحرب في الساحة الإعلامية كواقع بات متعارفاً عليه، حتى بات تكسير تراكمات التلقي المشوَّش واحداً من أصعب مهامنا في التدريب على صحافة حقيقية!.
12 عاماً كان “الترمومتر” لقياس جودة العمل، في مشروعنا هو “الأخلاقيات”، تبدأ من محاولات اختيار الفرد ليكون في المشروع، ولا تنخفض أبداً في أي تفصيل لاحق، نتعلم الانحياز كمحترفين، لنتجنبه، وتشكل أخلاقيات العمل الصحفي كتاباً مقدساً يلازم عقولنا، ويحدد مواقفنا وآلية عملنا.
12 عاماً آمنّا فيها أن خدمة قضيتنا تكون من خلال المهنية، وكانت حياتنا أحياناً كثيرة على المحك، ونحن راضون اليوم حد اليقين.
12 عاماً من العمل لنجومية “المشروع” على حساب أسمائنا، وكل ما يلحق بها من جهد وتعب وتضحية.
12 عاماً ولا زلنا من يصفنا السوريون، على اختلاف ثقافاتهم وتوجهاتهم، بـ”المصداقية”، وأي تكريم حقيقي لصحافي أكثر من أن يوسم بـ”المصداقية”.
12 عاماً من الصحافة النظيفة، في زمن فرض الاستقطاب “مقاصله” على كل مختلف، قدّمنا سوريا بلا مكياج، سوريا الحلوة بكل من وما فيها.
12 عاماً اكتسبنا خلالها مزيداً من الخبرة، صقلنا المهارات، التصقنا بالشارع أكثر، كان البوصلة كلما زادت حولنا “قوة الطرد المركزي”، تلك التي تعرّف بأنها قوة العطالة التي تنتج في الحركة الدورانية للأجسام، فنلتصق بالشارع وصوته واحتياجه، لكي لا “نندفع للخارج” بفعل قوانين الفيزياء! وهل أوضح منها!.
12 عاماً اشتغلنا صحافة كما اشتغل محمد منير “المزيكا” لا كما اشتغلت أم كلثوم، وكنّا عاجزين خلالها عن تعلم “الدبكة” رغم كثرة الأعراس و “الدبيكة”.
علّمنا وعلّمنا، أدركنا أن “عايشة وحدا بلاك” لم تكن مجرّد أغنية نحبّها لنبدأ بها مشروعاً، أو لتشكّل رابط ذاكرة بتلك اللحظة، البث الأول، هي لازمة نعيدها ونكررها وندركها ونسألها كل صباح في المرآة: “عايشة وحدا بلاك بس إنت فيك تعيش بلاها؟!”.
بقلم: عبدالله عبدالوهاب
الصحفي ورئيس التحرير