دمشق بعفويتها وجمالها .. أسماء الحارات والأزقة حقيقة وليست مزحة
تحكي دمشق قصصاً كثيرة لزوارها، وتنقلهم بين الماضي والحاضر والمستقبل، وللأسماء في مدينة دمشق حكايا وقصص يعرفها من عاش في مدينة دمشق، وتجوّل في حارتها، ولكل حارة اسم، ولكل اسم قصة، وكل قصة فيها ما يكفي من الطرافة، ليجعل الزائر يحفظ اسم المكان عن ظهر قلب.
و دمشق لم تتجمّل يوماً، و لم تخف فقرها بل قدمته بطرافة لتعبرعن واقعها كما هو، فظلت دمشق مدينة تحفل بدلالات ومعاني تعبّر عن حالة مختلطة، يصاب بها من يعايش دمشق اليوم فهي بين ثقل الموروث الهائل بكامل تجلياته، وبين التوق للحاضر، والقفز إلى المستقبل، كحاجة يفرضها عصر الاتصالات والانفتاح .
وعلى سبيل المثال حارة “الكلبة “الواقعة داخل حارة “المفتي” بسوق ساروجة، سبب تسميتها كما تذكره العامة يعود الى أن كلبة ولدت جرائها فيها.
أما حارة “القط” الواقعة جنوبي حي “الأمين” بمحاذاة السور من الداخل كانت تسمى قديماً “بستان القط”، واستمر وجوده حتى الثلث الأول من القرن العشرين، كما ورد في خريطة شرطة دمشق (1922 ـ 1924 )، وهناك من يعتقد أن نسبة البستان تعود إلى اسم العائلة أو لقب شخص، ولا علاقة لها بالقطط .
ورغم أن العامة ترفض أن تربط اسم الحارة بالقط بمعنى الهر، فهم يسمّون حارة أخرى قرب جامع الورد في سوق ساروجة (بحارة الجردون)، لكن لم يجر تدوين أسباب تسميتها تاريخياً سوى ما يتبادر إلى الذهن من قصص مبتدعة ترتبط بمواصفات ذلك الجردون الذي يستحق أن يسمى حياً باسمه.
و بعكس ما نلمسه في “حارة الزط” التي جاءت تسميتها بناء على تركيبتها الاجتماعية، فهذه الحارة الواقعة في الشاغور الجواني، والممتدة من الباب الصغير حتى شارع الأمين ، كانت مسكونة من قبل جماعة الـ JAT و (هم من الشعوب الهندو أوروبية تدين بالهندوسية، ومنبعها من الهند، هاجر بعضهم إلى الشرق الأوسط) .
وسمعة الزط وضيعة في المجتمعات العربية حتى يضرب المثل بحقارتهم وخستهم، إذ تعتبر كلمة الزطي من الشتائم الفادحة، ومن تهكمات الدمشقيين المثل الشائع (طلع من بيت الزط مؤذن).
وسوق “قميلة” التي يُظن للوهلة الأولى أنها مشتقة من قمل تبدو عكس ذلك، رغم أن معانيها أيضاً سلبية، وسوق “قميلة” القريب من سوق النسوان ورد ذكره في عهد المماليك في القرن التاسع للهجرة، وفي العصر الحديث حُرّف اسمه ليصبح (ميله).
وتستعمل هذه الكلمة كناية عن البضاعة الرديئة، فيقال بالدمشقية الدارجة ” إي شو جايبه من سوق ميله” وتحوّل هذا الاسم مع الأيام إلى مصطلح يراد به سوق الألبسة المستعملة البالة ليصبح سوق (أبو ميله).
ومن التسميات المستطرفة في دمشق ما أطلق على بعض المقاهي مثل “قهوة خبيني” بآخر سوق “القباقبية” تجاه مقهى النوفرة خلف الجامع الأموي، وأصل تسمية “خبيني” قديم وسبق أن أطلقت في القرن الثاني الهجري على مقهى غربي “التكية المولوية” عند ساحة الحجاز اليوم، وشاعت هذه التسمية الشعبية بين الناس في العهد العثماني .
و في حين كان أولئك يعمدون إلى البحث عن الشبان لسوقهم إلى الخدمة العسكرية المعروفة بحرب (السفر برلك)، وذلك على أساس مبدأ القرعة، وكان ضابط مفرزة السوق أو الأخذ عسكر”الشاويش” يعتمر قبّعة طويلة من اللباد الملقب “أبو لبادة”.
و اقترن اسمه بالخوف و للدلالة على عبوره السوق يصرخ الناس، عباية ..عباية حتى يتمكن الشبان من الهرب، لذا سميت المقهى (خبيني) لأن الشبان يلجئون إليها طالبين الملاذ، قائلين لمن بها: خبيني.
وتكاد تتقاطع ظروف قصة تسمية ” قهوة خبيني” مع قصة “قهوة الله كريم” من حيث الطرافة، إلا أن الأخيرة كانت للمتفائلين، بغد أفضل من المتقاعدين، بينما “خبيني” هي مقهى الهاربين من مستقبل مشؤوم.
وقهوة “الله كريم” التي كانت بقرب جامع يلبغا في محلة البحصة، معظم روادها من ضباط الجيش العثماني المتقاعدين، اللذين تم تسريحهم بعد خلع السلطان عبد الحميد، وكان هؤلاء كلما مر من أمامهم ضابط شاب بزيه العسكري المهيب وشاراته وأوسمته المذهبة يقولون مع تنهيدة : “إيه …..الله كريم” أملاً بعودتهم إلى الخدمة، ورجوع أيام العز السابقة برجوع السلطان.
ومن الأماكن الدمشقية التي حفلت بروايات الخيال الشعبي زقاق “الجن” الشهير اليوم كسوق صناعي لبيع قطع تبديل السيارات، تعيد العامة سبب تلك التسمية إلى أن المنطقة كانت مسكونة بالجن قبل أن تعمر، وكان الجن ينشرون في أجواءها العطر والبخور.
بينما “قهوة خود عليك” في منطقة ا”لشادروان” على طريق بيروت القديم فكانت تحتل ضفة نهر ثورا، سميت ” خود عليك” كناية عن ازدحامها، حيث يطلب الداخل إليها مكاناً من الجالس بالقول وسع لي مكاناً بجانبك أي (خود عليك).
ومما يشير إلى توقد الروح الدمشقية في اختراع تسميات أماكنها تسمية “مقهى التايبين” الواقعة عند مفرق المزة من ربوة دمشق، وعدم وجود ألعاب قمار في صالتها جعل روادها يطلقون عليها اسم التايبين.
وكلمة “التايبين” جاءت تأثراً بلقطة سينمائية في فيلم “امرأة تسكن لوحدها” لدريد ونهاد الذي ظهر في السبعينيات، والتصقت هذه التسمية بالمقهى حتى جرى هدمه لإقامة عقدة جسر الربوة عام 1976 م .
وهناك العديد من الأمكنة ذات التسميات التي تحمل دلالات ومعاني سلبية، تبدو غير منسجمة مع روح دمشق المشهورة بالورود والياسمين مثل “حارة المزابل” بحي العمارة الجوانية، وقيل أن تسمية هذه الحارة، تعود إلى الفترة التي أقام فيها الأمير عبد القادر الجزائري قصراً في العمارة الجوانية أوائل القرن التاسع عشر.
وكان لهذا القصر جسر خشبي على فرع نهر العقباني يصل بين زقاق النقيب، حيث القصر وبين حي الشرف الأعلى، وكانت بقرب الجسر أرض خلاء استخدمت لمزابل القصر، لكن أواخر القرن التاسع عشر صارت هذه الأرض حارة، وأقيمت فيها المنتزهات على طرفي النهر.
وحارة المزابل تستدعي للذهن التأمل في أصل تسمية “حارة القعاطلة” الواقعة قبالة “الباب الشرقي ” شمالاً، تنسب هذه المحلة إلى موقع بيت (نعمان الآرامي) رئيس جيش ملك آرام بنحدد الثاني.
وربما تبدو هذه التسميات مجازية تطلق على بعض الأمكنة دونما مستند واقعي، لكن لا يمكن تجاهل تاريخ ولادة تلك التسميات، فحارة الورد سميّت نسبة إلى حكر الورد الذي كان في موقعها، ورغم تبدل اسم هذا المكان في العهد المملوكي عاد اليوم ليثبت على الحارة، ويطلق على أهم معالمها كجامع الورد وحمام الورد .
وضمن السياق ذاته، لأسماء الأمكنة ذات الدلالات المكروهة تسمية “نهر قليط” الفرع الصغير لنهر “بانياس” المتفرع عن بردى، المار قريباً من الباب الشرقي، ودعي “قليط” لما يحمله من الأقذار والنفايات حتى ليضرب المثل بوساخته فيقال (فلان مثل قليط إذا حركته بتطلع ريحته).
وهناك أيضاً زقاق “البرص “الذي يثير مشاعر سلبية، مع أن الباحثين يردون اسمه الغريب إلى عدة اشتقاقات متناقضة المعنى منها ( بَرص، وبورص، بوس).
وهو زقاق متعرج يقع بين سوق الحميدية والبيمارستان النوري، و ذكر في خريطة شرطة دمشق زقاق البوس، البعض يعتقد أصل التسمية من كلمة( بورصة سوق الأسهم المالية) ومنهم من يقول أنها من البرص جمع أبرص وهو داء البهق.
أما زقاق “الولاويل” الذي يوّلد العديد من الأفكار والقصص الخرافية، يقال أن اسمه زقاق “الزعاويط”، ويعتقد أنه في حي الميدان، وهو كإسمه حيّر الباحثين بتحديد مكانه أو سبب تسميته.
كما هو الأمر مع زقاق “المعمشة” و زقاق “البلطجية” وسوق “الشراطيط” إلى جانب تسميات كثيرة يصعب حصرها في مقال واحد.