ثقافة وفن

“ثقافة الطوابير”.. ما بين فكرة المساواة وتقصير الأعمار

إذا جمعت زمن وقوفك على الطوابير منذ “تحية العلم” في المدرسة الابتدائية، مروراً بطابور “الإعاشة”، والدَّوْر على الفرن، وفي انتظار الأوراق الرسمية.

مع زمن وقوفك حالياً أمام الكازيات وفي انتظار وسائل النقل .. ستكتشف أن ما يُقارب ربع عُمرِك تقضيه وأنت في طابور ما تنتظر “الفرج”.

ربما تواسيك فكرة أن الطوابير وانتظام النَّاس فيها دليل على المساواة، لكنك سرعان ما تمحو أفكارك الوردية بعدما تكتشف أن الطابور بات بمثابة وحدة قياس لأعمارنا.

فهذا عاش ثلاثين طابوراً، وذاك مُعمِّر إذ طالت حياته لثمانين طابور، وآخر خُطِفَ خطفاً وهو في طابوره الثامن، فهل ثمَّة علاقة فعلية بين الطوابير والأعمار؟

طرَحنا هذا السؤال على مجموعة من الأشخاص ضمن استطلاع خاص لتلفزيون الخبر، فجاءت إجاباتهم مُتفاوتة: الطالب الجامعي “ربيع صلاح” أبدى استعداده لأن يقف في أول الطابور إن كان ذلك كفيل بتقصير حياته، بسبب “القرف” الذي يُعاني منه.

بينما الشاعر الحموي “عمر حداد” داوَر فكرة الزمن في السؤال قائلاً: “2019 خادعة .. وأظنها قبل الميلاد وليست بعده”.

الصحفي “نضال بشارة” كَتَبَ “طوابير الانتظار تقوّي الأبصار، في حال توافر الحسناوات اللواتي يزددن غنجاً في النهار”، في حين أن الناشطة الإعلامية “صفاء صلّال” أوضحت أنه “يمنح عمراً إضافياً عمادهُ الصبر”.

في حين قالت “يالا فهد”: إن “الطوابير لا تقصر العمر، لكنها تؤهرمه أهرمةً وخُلِقت للفرز”، بينما رأى البعض أنها “مضيعة للوقت”، واعتقد البعض الآخر أنه “يمكن استثمارها في التسلية والتعرف على الآخرين”، ليسخر آخرون منها بالقول: “وما أطال الطابور عُمراً ..”.

الفنان التشكيلي “أحمد كمال” أوضح أن “الوقوف في الطابور لا يُقصِّر الأعمار، لكنه يؤخِّر الإعمار”، شارحاً رأيه بأن “الوقت المهدور بسبب طوابير الكازيات وانتظار السرافيس يُشعرني أن أثمن ساعات حياتي أقضيها تحت جسر الرئيس”.

وتابع “كمال” “كما انزاحت أحاديثي من تمحورها حول الثقافة والفن واللَّون، إلى الحديث عن البطاقة الذكية وسعر كيلو البندورة وجرزة البقدونس، في حين أن الإعمار كما أراه يحتاج تفرّغاً فكرياً وعصفاً ذهنياً، ومن دون ذلك لن ترجع سوريا أجمل مما كانت”.

بدوره “يحيى زيدو” الحائز على دراسات عليا في الفلسفة الاجتماعية والإنسانية أوضح لتلفزيون الخبر أن “فكرة الطابور ليست جديدة على مجتمعاتنا”.

وتابع “ألفنا الانتظام في الطابور منذ الصفوف الأولى في المدرسة، وكذلك في الدوائر الحكومية للحصول على بعض الأوراق الثبوتية، أو إنجاز بعض المعاملات الإدارية”.

وأضاف “خلال الحرب الحالية صارت لدى السوريين طوابير: الخبز، الغاز، المازوت، البنزين، الصراف الآلي، البطاقة الذكية، وغيرها”.

وميز “زيدو” بين أنواع للطوابير، منها “الطوعي” كدخول السينما أو المسرح أو إلى حفل غنائي أو مباراة رياضية، و”روتيني” مثل الاصطفاف وراء الصراف الآلي، الدور في الدفع في المصرف، أو في المولات التجارية”.

إضافة إلى “الطابور “الطارئ” أو “الإجباري” المرتبط بحصول اختناق في سلعة تموينية أو غذائية أو نفطية، حيث يتم الوقوف في الطابور للحصول على المادة المفقودة أو المقننة”، بحسب “زيدو”.

وأكمل “كما هناك “الطابور الموازي” الذي يخترعه البعض ممن لا يطيقون الانتظام في طابور طويل”، مضيفاً “وغالباً ما تحصل مواجهات لفظية أو جسدية بين الواقفين في الطابور وبين أي شخص يريد أن يتجاوز دور الواقفين فيه”.

وبين “زيدو” أن “لغة الجسد تختلف في كل نوع من الطوابير، حيث تجد الجسم المنتصب الواثق بلباس أنيق ووجه مبتسم في الطابور الطوعي، أما الجسد المحايد الذي لا تظهر على وجهه معالم القلق أو الملل فإننا نجدها في الطوابير الروتينية”.

“بينما الجسد المتعب مع ملامح الإرهاق والملل والغضب فنراها في طوابير السلعة المفقودة”، أما على الصعيد الاجتماعي فإن “الانتظام في الطابور، بحسب “زيدو”، يخلق نوعاً من الحميمية بين الواقفين”.

وأوضح “زيدو” “إذ تظهر الحاجة إلى تعبئة الوقت بالأحاديث المختلفة، هنا يمكن أن تسمع أحاديث في السياسة والاجتماع والدين والاقتصاد والثقافة العامة والأمور المنزلية”.

وأردف “وقد يحالفك الحظ بالاستماع إلى شخص يصف الأدوية أو يستعرض معارفه في التكنولوجيا والسيارات أو تبييض الأموال، وعلاقة الدولار بالذهب والنفط، حتى تصل إلى الحديث عن زراعة الشعر والحقن بالسيليكون”.

وقال “زيدو”: “الطابور يعكس في أحد وجوهه ثقافة المساواة، فكل الواقفين متساوون نظرياً في المكانة لأن لهم الهدف نفسه، كما أن الانتظام في الطابور يعكس ثقافة الشخص في احترامه لنفسه، وللآخر، ولفكرة التنظيم، ولقيمة الوقت”.

وأضاف: “يُقال إن البريطانيين أمهر شعوب العالم في تنظيم الدور، لدرجة أن كل بريطاني يمكن أن ينتظم في طابور لوحده منذ أن يولد، ويبدو أن هذه الحرب جعلت السوريين يتجاوزون البريطانيين في هذه القضايا”.

فالسوري في كل صباح ينتظم أمام المرآة ليحصي طوابير مشكلاته اليومية قبل أن يقرر أن ينتظم في أي طابور طوعي أو قسري يستمتع فيه بتأمل نقرة الواقف أمامه، وبالأحاديث التي تفتقت عنها قريحة الواقفين في الطابور”، بحسب “زيدو”.

بديع صنيج- تلفزيون الخبر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى