المقاهي الثقافية في دمشق.. فضاءات عصرية بنكهة الوجبات السريعة
بعدما فقدت المراكز الثقافية في دمشق جاذبيتها، ودورها المنوط بها في تهيئة مناخ ملائم للتلاقي، وتفعيل الحوار، لاسيما لدى الشباب سعت بعض المقاهي لأخذ دور تلك المراكز، ولو بشكل جزئي.
وحملت تلك المقاهي على عاتقها تأسيس فضاءات لا تكتفِي بتقديم المشروبات، بل تسعى لتعزيز “ثقافة الحب” التي تكلّم عنها نزار قباني بقوله: “مقاهي العالم.. هي الأكاديميَّاتُ التي يتخرَّجُ منها العُشَّاقْ.. وحينَ تُقْفَلُ هذه الأكاديميَّاتُ أبوابها.. تنتهي ثقافةُ الحُبّْ”.
مناهضة العقليات “المُغلقة” لمُدراء المراكز الثقافية التي تقتصر فعالياتها على محاضرات لا يحضرها أحد، ومعارض من “حواضر البيت”، وأمسيات موسيقية “هات إيدك والحقني”، هذا بعضٌ مما وجدت تلك المقاهي من واجبها التعويض عنه.
لكن من دون أن يكون ذلك مقاربةً لمقاهي دمشق أيام الخمسينيات والستينيات فالمناخ الاجتماعي والسياسي اختلف، وما كانت تحتله تلك المقاهي كـ”الهافانا” و”البرازيلي” على سبيل المثال، من مكانة تشهد جدالات فكرية عميقة، وصراعات أيديولوجية، لم تعد متاحة اليوم.
لذا اكتفت المقاهي المعاصرة بطابع “ثقافي” جعلها ملاذاً للراغبين بتزجية الوقت بطريقة مغايرة، بعيداً عن صخب موسيقى “الحبي دبي”، وقريباً من “الجنة على هيئة مكتبة” كما وصفها بورخيس، إذ يتحوّل مثل تلك المقاهي إلى فضاء يتفعَّل من خلاله الزَّمن بطريقة إيجابية.
وفق هذه الصيغة احتضنت بعض المقاهي في دمشق فعاليات ثقافية من قراءات مسرحية وأدبية، إلى معارض تشكيلية وتواقيع كتب، وليس انتهاءً بالأمسيات الموسيقية والجلسات الحوارية، من مثل “نينار” الذي يُعرِّف عن نفسه بأنه مقهى فني، لكنه تخلّى عن هذه الوظيفة.
مثله مثل “القصيدة الدمشقية” الذي أثقل كاهله إغلاقات غير مبررة بالشمع الأحمر أكثر من مرة، فتحول إلى مطعم وبار بغير اسم، وبعيد كل البعد عن روحية “والمقهى ماذا سيبقى من أصالته؟” مع الاعتذار من نزار قباني.
أما المقهى الذي واظب على وظيفته الثقافية فهو “زرياب” إذ سخر ذاته لــ “خدمة الثقافة” كواجب اجتماعي إنساني بالدرجة الأولى، عبر جذبه الشباب بحفلات موسيقية وورشات صناعة دمى مسرحية، وعروض سينمائية، ودورات تصوير ضوئي ومعارض…
ورغم أننا استبشرنا بافتتاح “قهوة ع المفرق” العام الماضي، كاستمرار للمناخ الذي كان يحققه مقهى “ع البال” في ما مضى إلا أن ذلك لم يحصل وحافظ على نَفَسِه التجاري البحت من دون تواقيع كتب ومعارض كما كان مُقرراً عند افتتاحه.
أما مقهى الروضة فأخذ صبغته الثقافية من مرتاديه من دون أن يحرك شيئاً على صعيد الثقافة، لاسيما بعد تكريس ذاته كمكان لشرب الأركيلة ولعب الطاولة والشدة وحضور المباريات.
ورغم المكان الأثري المحيط بمقهى المتحف الوطني إلا أنها الأخرى لم تشهد أي نزوع ثقافي وبقيت محاطة بالآثار وبالقاعة الشامية التي يحصل فيها بعض الندوات الآثارية والمحاضرات لا أكثر.
كل ذلك يتيح لنا القول أنه للأسف في دمشق لم يعد هناك مقاهٍ ثقافية كما كانت في حقبتيّ الخمسينيات والستينيات، عندما كان هناك أحزاب متعدّدة تجتمع وتتكئ على مشروع ثقافي وفكري ما، فالآن لم يعد ثمة أحزاب بالمعنى الحقيقي للكلمة، ولم يبق هناك مثل تلك المشاريع الثقافية.
الآن هناك نوع من الاتكاء على فكرة ثقافية في مكان غير ثقافي، تتفعل ضمنه بعض النشاطات الأهلية البسيطة التي تأتي كتعويض عن نشاط المؤسسات الثقافية الرسمية التي تراجعت كثيراً في السنوات الأخيرة.
بديع صنيج _ تلفزيون الخبر _ دمشق