المقاهي الثقافية في اللاذقية.. فنانون وحالمون يجمعهم عالم موازٍ
لا تعكس المقاهي الثقافية طبيعة مجتمعها الواقع خارج أسوارها، بل يعكس ما يحلم به روّاده وأصحابه، ربما تبسّط هذه الكلمات طبيعة علاقة هذه المقاهي بمُدنها.
يصف البعض رواد هذه المقاهي بالطوباويين والحالمين، وبرأيهم أن ّهذه المقاهي منفصلة عن الواقع، واقع لمجتمع عنوانه السعي وراء لقمة العيش والبحث عن الأساسيات، ولا وقت فيه “لكماليات” الفنون والتثقّف.
المقاهي الثقافية في مدينة اللاذقية تُعدّ على أصابع اليد الواحدة، مقاهي، تحاول جاهدة ترك بصمة وتغيير ولو بسيط في مجتمع شوِّهته سنون الحرب وهجرة شبابه.
في زقاق بسيط قرب شارع 8 آذار في اللاذقية يقع مقهى ناي، (ناي آرت كافيه) بطاولاته القليلة العدد، المليئة بالذكريات لأُناسٍ شاركوا أحلامهم ورسومهم وشعرِهم وصورهم عليها.
المقهى ذو السلم الواصل بين الطابق العلوي والسفلي كان من أوائل المقاهي الثقافية في اللاذقيّة، وأسسه المصور أنس اسماعيل، والذي تحدث لتلفزيون الخبر عن مصطلح “مقهى ثقافي”.
ويقول اسماعيل “المصطلح ملتبس ومتفاوت بالتفسير، ففي بلداننا لا يمكن أن تأسس مشروع ثقافي بحت من دون مدخول مادي، فَناي كافيه هو مشروع اقتصادي يُقدّم فعاليات ونشاطات ثقافية لمرتاديه”.
ويتابع اسماعيل “تأسس ناي كافي في محاولة لرعاية ومساعدة جيل من الشباب والصبايا المهتمين بالكتابة والتصوير والنحت والشعر والموسيقى، ولايجاد فسحة لهم لعرض ابداعهم”.
ويضيف “وفي بعض الأحيان كانت تقام أمسية موسيقية أو شعرية مرة كل اسبوع ومعرض فنّي كل عشرين يوم بشكل منظّم، لتكوين ذاكرة جميلة للمهتمين و إبقاء المقهى كمتنفس لهم”.
وعن أجمل الذكريات التي ما زالت مرتبطة بذاكرة صاحب مقهى ناي آرت كافيه قال اسماعيل: “عندما تطلب منك سفارات الدول أن تقيم نشاطات ثقافية فهذا يعتبر خطوة وإشادة بعملك فالسفارة الفرنسية قامت بعقد ورشتي تصوير في المقهى والسفارة الأمريكية رَعت ورشة أقامتها إحدى الفنانات الأمريكيات في ناي آرت كافيه ودرّبت من خلالها 14 فنانا سوريّاً.
يتذكّر “اسماعيل” العروض المسرحية التي أُقيمت في ناي وكيف افترش الحضور الأرض والسلم الواصل بين جُزأي المقهى لمشاهدة العرض، ولا ينسى ذكر الأمسيات الشعرية والورشات التفاعلية والمعارض الفنية والأمسيات الموسيقية وحتى حفلات توقيع كُتب ومعارض للتصوير الضوئي.
يتابع أنس اسماعيل حديثه عن أبرز الأحداث المفصلية سلباً في تاريخ المقهى-وكأغلب النشاطات في سوريا -تعد بداية الأحداث عام 2011 وجائحة كورونا وتداعياتها يتصدران هذا التصنيف.
ويقول اسماعيل “بعيدا عن السلبية، فناي كافيه شكّل علامة فارقة بين المقاهي ليس في اللاذقية بل في سوريا، فالزوار الذي استقبلهم المقهى تجاوزوا حدود البلاد العربية الى فرنسا والمانيا وبريطانيا، تعرفوا على المقهى من نشاطاته وبالبحث في محرك البحث “جوجل”.
ويتابع اسماعيل: من النقاط المضيئة في تاريخ ناي أيضاً أن المقهى ونشاطاته كان مشروع حلقة بحث أعدها دكتور سوري في جامعة بمدينة مانشستر البريطانية، والتي وافقت الجامعة عليه.
وعن الاختلاف بين ناي في بدايته واليوم قال اسماعيل إن “هجرة الشباب الكبيرة جعلتنا نخسر ناس “مهمة” كبروا في المقهى وكانوا من أساسه، حتى أن بعض الطلاب تخرجوا من دراسة الطب وهم يدرسون في ناي بعد أن كانو يرتادون المقهى منذ المرحلة الثانوية، خسارة الناس كانت أليمة جدا علينا”.
يؤكد “أنس” أنه لم يقدم تنازلات أمام أي جهة أو فكرة، ويتابع “بل الايجابيات الموجودة اختفت مع الحرب و هجرة الشباب من فنانين ورسامين ومثقفين، وهي الخسارة الأكبر”.
وعن طموحه عند بداية مشروعه يقول اسماعيل ” كان هدفي تحويل المقهى الى مؤسسة ثقافية أهلية كبيرة، ولكن الظروف كسرتنا، كسرت أحلامنا، ولكن مازلنا متأملين وصامدين، رغم الوضع الاقتصادي السيء”.
يطالب أنس أصحاب المقاهي” الثقافية” في اللاذقية بالاعتراف أن المشاريع أساسها اقتصادي، فكلنا نريد تأمين لقمة عيشنا وتحسين واقعنا الاقتصادي والاجتماعي ورفع السوية الثقافية في المدينة وذلك من خلال التماهي بين الاقتصاد والثقافة.
هيشون آرت كافيه
هنا يمكن استحضار تجربة “هيشون آرت كافيه” في حي الأوقاف، فالمكان الذي بدأ عام 2006 يواظب على تقديم المعارض الفنية، وبنفس الوقت يتطلب منك الظفر بطاولة فيه أمر صعب نظراً للاقبال الكبير عليه، سواء لجلسة مع الأصدقاء وحتى لمتابعة مباراة ما على شاشاته.
وفي حديث سابق لتلفزيون الخبر مع صاحبه المقهى أحمد موسى قال “استطاع مقهى هيشون أن يلعب دوراً مهماً في حياة الكتاب والشعراء والفنانين في مدينة اللاذقية، وبقى مكاناً محبباً إلى قلوبهم، يجمعهم ليس فقط على طاولة واحدة أو لمجرد التسلية، إنما يجمعهم على أفكار حقيقة استطاعت أن تتحول إلى أعمال فنية وعرضت في مقهى هيشون الثقافي”.
وتجربة ناي كافيه يمكن تعميمها على أماكن أخرى ، فمقهى قصيدة نثر رفد الشارع الثقافي اللاذقاني بالكثير من الأنشطة التي ساهمت بتكوين خبرة لجيل من الشبّان والشابات من روّاده.
“آبي رود”
تحت شجرة المشمش”دورا” التي تقع أمام مقهى “آبي رود” في المشروع الأول، حدثتنا جوليا، الفتاة العشرينية التي تعمل في المقهى عن ” الجو” الذي أغراها لارتياد المقهى، “ناس لطيفة والديكور الجميل والموسيقى التي تشبه أبناء جيلها”.
لا يوجد في “آبي” أحكام مسبقة على الناس وزوّاره، يمكن تسميته مقهى ثقافي يجمع بين مختلف الاهتمامات وأغلب مرتاديه يبدعون في مختلف المجالات، وحتى أن المقهى أصبح جامعاً لخبرات هؤلاء الاشخاص و فسحة لتوسيع دائرة خبراتهم وتبادلها وتطوير أنفسهم في مختلف الهوايات التي يبدعون بها، والكلام لجوليا.
وتتابع “جوليا” التعرف على أشخاص مهتمين بالفن أو المشاركة بأمسية عزف أو معرض، كل هذه النشاطات أعتقد أنها تزيد خبرتي، وتقدم لي خيارا بديلا لنشاطات المراكز الثقافية في المدينة
أما عن أبرز النشاطات التي أُقيمت في آبي رود فتتنوع بين الموسيقى وتنظيم المعارض الفنية”.
شاركت جوليا بتنظيم 11 معرضاً وقدمت أعمالها الفنية في 8 معارض منها، ويتنوع المشاركون بهذه المعارض من فنانين ومحترفين وهواة ويتبادلون الخبرات.
أما النقطة المفصلية في “آبي رود” فهي سفر الأشخاص، فمع غربة الأشخاص يفقد المقهى جزءاً منه، فكل شخص من هؤلاء كان نواة لمشاريع عديدة، وبرأي جوليا فإن خروج جيل يؤثر على الجيل الذي يليه.
يختلف آبي رود بمرتاديه عن غيره من المقاهي الثقافية، فجلّ رواده من جيل الشباب، والفن الذي يقدموه مستجد وحديث و”مجنون” كأفكارهم ومعتقداتهم البعيدة عن قيود المجتمع.
لؤي سليمة – تلفزيون الخبر