شعراء البلاط.. “من يدفع أجر العازف سيختار اللحن”
ضجت وسائل التواصل الاجتماعي “بالصفعة” التي وجهها الشاعر اللبناني طلال حيدر “لزهر البيلسان” الذي كان دائما مخلصا لكلماته وشعره، فكيف لكاتب “وحدن بيبقوا” متغنيا بثلاثة شبّان عرب قاموا بعملية فدائيّة وسط الكيان الصهيوني، أن يقدم قصيدة مديح لمملكة أمعنت في اغتصاب حقوق الإنسان والتطبيع مع العدو “الإسرائيلي”.
وإذا عدنا للتاريخ فلن نجد صعوبة في إيجاد أمثلة عن شعراء عمالقة امتهنوا المديح لمن يملأ جيوبهم بالذهب، أو سقطوا أخلاقيا وإنسانيا، ومن هؤلاء:
جرير (33هـ/133هـ):
جرير بن عطية الكلبيّ اليربوعيّ التميميّ، ولد في نجد وعاش فيها حتى وفاته، واقترن اسمه بالفرزدق والأخطل لما استمر بينهم من شعر الهجاء قرابة أربعين عاماً.
امتدح جرير بني أمية متغزلاً بصفاتهم الحميدة من الجود والكرم والشهامة، ووصفهم بأهل الرجولة والشجاعة، وقرّبه إليه الحجاج بن يوسف الثقفي بعدما امتدحه بالكثير من الشعر وأغدق عليه العطايا، ومن أشهر مديحه ما قاله للخليفة عبد الملك بن مروان:
ألـَسْتُم خَير مَنْ ركب المطايا .. وأندى العالمين بطونَ راحٍ
الأخطل (19هـ/69هـ):
أبو مالك (الأخطل التغلبي)، نشأ في قبيلة تغلب العربية، ونظم الشعر صغيراً، وتقرّب إلى خلفاء بني أمية بعدما انتقل إلى الشام، ومدحهم خير المديح، ومن أشهر ما قال عن الخليفة الأموي عبدالملك بن مروان:
إلى امرئٍ لا تعدّينا نوافلهُ .. أظفره اللهُ، فليهنأ لهُ الظفرُ
الخائضِ الغَمْرَ، والمَيْمونِ طائِرُه ُ.. خليفة اللَّهِ يُسْتَسْقى بهِ المطَرُ
النابغة الشيباني (125هـ/743مـ):
عبد الله بن المخارق بن سليم بن قيش الشيبانيّ، هو من شعراء الطبقة الأولى من البادية، اشتهر بكثرة المدح للخليفة عبد الملك بن مروان، حتى إنّ الواقعة السياسية الأشهر وهي خلعه لأخيه عبد العزيز من الحكم، زينّها الشيباني للناس في قصيدة نظمها مدحاً في عبد الملك قائلاً:
أزحتَ عنا آل الـزبيـر ولـو .. كانوا هـمُ المالكين ما صلُحـوا
إن تلق بلوى فأنت مصطبـر .. وإن تلاقـي النعمى فلا فـرحُ
بشار بن برد (96هـ/168هـ):
بشار بن برد بن يرجوخ العقيليّ، يعد حلقة الوصل الشعرية بين نهايات العصر الأموي، وسطوع نجم بني العباس، مدح الأمويين، ومن بعدهم العباسيين، ومدح الخليفة المهدي بن المنصور، الذي امتنع عن مكافئته بالمال، فاغتاظ بن برد وهجاه ببيته الشهير:
خليفَـة يزنِي بعَمَّاتِـه .. يلعب بالدبوق والصَّولجانْ
أبْدَلَنا اللَّه به غَيْرَه .. ودسّ مُوسى في حِرِ الخَيـزُرَانْ
فكان ذاك البيت سبب مصرعه، ليتهمه المهدي بالزندقه ويأمر برجمه حتى الموت.
أبو الطيب المتنبيّ (303هـ/354هـ):
أحمد بن الحسين أبو الطيب الكنديّ الكوفي، وُلِد في مدينة الكوفة سنة 303هـ، ويعرف عن المُتنبِّي أنه عرض على سيف الدولة الحمداني أن يمدحه في شِعره، فرحَّبَ به سيف الدولة، وضمَّه إلى بلاطه، فكان من أخلص خُلَصائه، ورفاقه، وشاركه غزواته، وكرَّس حياته مُدافعاً عنه ضِدّ أعدائه، ومَن يفترون عليه.
نجحَ المُتنبِّي في الحصول على مكانة رفيعة في بلاط الأمير، ولكن غرور المتنبي كان دوماً ما يدفعه إلى مدح نفسه قبل السلطان الذي يمنحه العطايا، واستمر طموحه في التعالي، حتى انقلب عليه الحمداني فلجأ إلى الإخشيدي في مصر.
أحمد شوقي (1868/1932) :
أحمد شوقي علي أحمد شوقي بك، أمير الشّعراء و”شاعر بلاط” وشاعر مدح من الطّراز الأوّل، ومن يعود إلى الشّوقيّات في جزأيها الأوّل والثّاني والشّوقيّات المجهولة يرى حجم تلك القصائد المنظومة مدحا للباشوات والباكاوات، عدا مدحه للأسرة الخديويّة، وإلباس الممدوحين صفات فضفاضة، يرفلون بها أكبر من حجمهم.
محمود درويش (1941/2008) :
اتهم درويش بتسويق التّطبيع مع الآخر ليس المختلف عنه لغة وحضارة، بل إنّه المعروف “عدوّاً” بالمفهوم الإنسانيّ والبشريّ لمعنى العدوّ، وما أنسنة درويش لهذا “العدوّ” إلّا ضرب من الإصرار على التّدجين الّذي يفقد الشّعر أهميته مهما امتدحه النّقّاد و “الإنسانيّون” وما على القارئ سوى العودة إلى قصائد الشّاعر الأخيرة.
على سبيل المثال قصيدة “سيناريو جاهز”، حيث يرى في التّعايش السّلميّ بين الجلّاد والضّحيّة ضرورة حتميّة، لا مفرّ منها، بل أبعد من ذلك فقد ألغى الفوارق التّاريخيّة بين الطّرفين، ليرى في المسألة صراعا عاديّا يحدث بين أخوين، تنازعا على حيّز في مكان مشترك.
“أَنا وَهُوَ،
شريكان في شَرَكٍ واحد ٍ
وشريكان في لعبة الاحتمالات ِ
ننتظر الحبلَ… حَبْلَ النجاة
لنمضي على حِدَةٍ”.
وأكثر ما يخيّب الظّنّ شعراء خانوا قداسة الشِّعر، فكانوا إمّا مداحين أو منافقين، فأين ذلك الشّاعر الّذي يرى الشِّعر مبتغاه الأول والأخير بعيدا عن أن يكون تابعا وخادما؟ بل إنّ الشّاعر الحقيقيّ هو من يوجّه، قلبه ولسانه، ملكته وموهبته كيفما أراد له شيطان الشعر، ليكون هو “الحر” ولا شيء غير ذلك.
تلفزيون الخبر