فلاش

ساعة في شوارع مخيم اليرموك

ليست الابتسامة المعلّقة على هذا الباب المنكوب هي ما سيرتسم على وجهك عند رؤيتها أو رؤية بقايا الباب الذي تحرسه، فالشارع برمته يسرق أي ابتسامة.

مخيم اليرموك، لمن عرفه، كان مدينة ضجت بالحياة وتشبعت بحق الحياة الذي من أجله سكنها أهلها، ولكن المخيم اليوم أشبه بمشهد من فيلم سينمائي لمدينة أصابها وباء ما، وصنعت صورتها مخيلة ما، فالحرب مرت من هنا.

تتجول راصداً الصمت العميق، الذي يختبئ بين أكوام الحطام والدمار، الصمت الذي يترصدك عبر آلاف الثقوب في جدران متداعية كالحة، فتشعر بسهام نظراته، الحرب مرت من هنا وتركت الوجه مشوهاً.

الحرب لم تمر من هنا فقط، الحرب سكنت هنا سنوات، وتركت ندوباً يعلم الله متى تلتئم، فيعود المتجر الذي يبيع أجمل الأحذية بـ 250 ليرة، والمطعم الذي يبيع سندويشاته بـ 50 ليرة، من الذاكرة فيصبح حقيقة مرة أخرى، على أرض اليرموك.

في شوارع كثيرة لا تسمع سوى صوت خطواتك الثقيلة، فحتى الريح ساكنة، لكنك ستتابع باحثاً ربما عن أثر حياة، منقباً مصغياً لأي نفس باق في الركام.

وستعثر عليه إن تابعت، فمن بين الشرفات المنقوبة تطالعك شرفة مليئة بالورود، لكأن صاحبتها، وهي من القلة العائدة، تعمدت جبر خاطر المخيم بألوان ستمتد إلى الشرفات الأخرى يوماً ما.

ومن بعيد، ستسمع أصوت أطفال تلعب، اتخذت من كل الساحات ملعباً، ومن كل الزوايا المدمرة مخبئا للعبة الغميضة، ومن كل عمودين صامدين عارضة لمرمى وهمي، لكرة قدم هي في أحسن الأحوال “تنكة مشروب” ناجية.

الطفلان “أحمد” و” محمد”، وهما قريبان يقطنان أحد البيوت شبه المتداعية مع أسرتهما، يشيران بفرح طفولي كيف حوّلا كل المدينة المنكوبة إلى ساحة لعب كبيرة.

ويشرحان بـ “حماس كبير”، كيف صمدوا مع أهلهم طيلة أربع سنوات منتقلين من حارة إلى أخرى دون أن يغادروا المخيم، وكيف يمضيان نهارهما باحثين بين الأنقاض دون خوف.

وقد تعثر أيضا على كومة كتب مدرسية ناجية هي الأخرى، محفوظة في صندوق خشبي مرمي على قارعة الطريق وغير مغر لـ “التعفيش”.

ويطالعك بسخرية كتاب مفتوح على صفحة عنوانها “التخطيط والتنمية”، فلا تقدر على إبعاد فكرة كم أن الحرب عبثية، فدون تخطيط تهدم مدينة كاملة، وتحتاج آلاف الخطط لإعادة بناءها.

وتم تأسيس المخيم في عام 1957 بهدف استيعاب اللاجئين الفلسطينين، الذين كانوا متفرقين في المساجد والمدارس والأماكن العامة الأخرى، وعلى مر السنين، عمل سكان المخيم على تحسين مساكنهم وقاموا بإضافة المزيد من الغرف عليها.

وقبل الحرب، كان المخيم يعاني من اكتظاظ سكاني، فسكنه حوالي مليون شخص من السوريين والفلسطينين وفيه ثلاثة شوارع رئيسية هي “اليرموك”و “فلسطين” وشارع “الثلاثين”، والعديد من الشوارع الفرعية الشهيرة مثل شارع “لوبية” وشارع “صفد” و التي لطالما كانت مزدحمة، وتتناثرت على جنباتها المحال التجارية.

وخلال سنوات الحرب تناوب على احتلال المخيم كل من “جبهة النصرة” والتنظيمات المرتبطة بها، وتنظيم “داعش”، الذي احتل أكثر من نصفه قبل تحريره، وإعلان الدولة السورية بداية شهر تشرين الثاني من العام الماضي، رسميا عودة أهالي المخيم، الملقب بعاصمة الشتات، واستمرار العمل بإزالة الأنقاض والركام من شوارعه.

اليوم، إن تابعت المسير في الشوارع الخالية إلا من آثار الدمار، ستجد تفاصيل كثيرة لم تقتلها الحرب، ستحاول نفض الغبار عن بعضها قبل أن ترحل، علك تترك دليلاً على “أمل” لزائر بعدك.

رنا سليمان _ تلفزيون الخبر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى