حكايتي مع حلب .. مدينتي قبل ألف عام!
عندما جاءت أختي الكبيرة “متبجّحةً” بما سمِعته للتوّ “بأن أصول عائلتنا تعود إلى حلب وإلى عائلة أبو فراس الحمداني تحديداً” أيقنت بأنني أسمع أجمل معلومة قد تطرب لها روحي يوماً..
نعم هكذا شعرتُ وأنا الذي لم أكن قد زرتُ حلَبَ يوماً، وكل ما أعرفه عنها هو ما يمكن لمراهق أن يسمع به من أخبار التلفزيون الوطني، وبضع قصائد حفظتها لشاعرها الفارس أبو فراس الحمداني الذي أعشق قصيدته ومطلعها الساحر بصوت سيدة الغناء ” أرَاكَ عَصِيَّ الدّمعِ شِيمَتُكَ الصّبرُ.. أما للهوى نهيٌّ عليكَ ولا أمرُ”
سألتُ “برونيا” وعلائم الفضول والدهشة الممزوجة بالغبطة تملأ قلبي ووجهي : “عن جد .. من قال لك ذلك”؟
حكت لي الحكاية : كنا نشتري “طقم كنبايات” من أحد محلات اللاذقية عندما سأَلنا صاحب المحل بعد حديث ودي قصير: من أي حسّون أنتم ؟ (ويقصد بأن عائلة حسون منتشرة في كل سوريا، وفي أكثر من قرية ومنطقة في اللاذقية) فقلنا له : الهنادي..
وقتها فتح الرجل كتابه النادر عن سلالات اللاذقية وأصول شجرة كل عائلة ليبلغهم كمن اكتشف كنزاً، المعلومة التي أدهشتهم، وأغرمتُ أنا بها لحظة سماعها، فبتُ أحملها كتعويذة في قلبي : أنتم من آل “خير الدين” التي تعود بأصولها إلى الأسرة الحمدانية بحلب ”
انتهى الكلام، وبدأت قصة عشق جديدة لمدينة حلفتُ أغلظ الأيمان بأنني سأحقق حلمي بزيارتها في أقرب فرصة: أليست مدينتي ومسقط رأس “جد جدي” أو ربما مسقط رأس عائلتي الأولى قبل ألف عام؟
حسناً .. كان عليّ أن أنتظر حتى تخرّجي من الجامعة والتحاقي بالخدمة العسكرية لأكحّل عينيّ برؤية المحبوبة، لم تكن الصورة في ثكنة هنانو مقارِبةً لما جهدتُ سنين طويلة في مراكمته من خيالات عن مدينتي الأجمل، والأسوأ أنه لم يكن لي أن أجول في مدينتي الأصلية، كان عليّ استلام فرزي والالتحاق “موجوداً” ..
لا بأس .. لا بأس ..سأعود يوماً لأمشي في مدينتي شارعاً شارعاً وأتعرّف عليها حجراً حجر ، قلت لنفسي مواسياً.
وكان أن تحققت الأمنية أثناء عملي في مجلة “أبيض وأسود”، حيث كانت حلب وجهتي كأول مهمة لي خارج دمشق.
وصلتها فجراً، فرحتُ أمشي وأمشي بلا تعب، تعرفت على بعضٍ من مدينتي، زرت قلعتها وأسواقها وحديقتها العامة ( أجمل حديقة رأتها عيني حتى ذلك الوقت) ، تنشّقت في أسواقها رائحة الزعتر وصابون الغار حتى امتلأت رئتيّ .. شممت رائحة شجرها وترابها وحتى “قويقها”، أذهلني حجر الأبنية المزهوّ بفرادته في كل شوارعها.
كان عليّ أن أتذوق طعامها لأصبح ممن يصح عليهم القول : “بطنو شبع وعينو ماشبعت” فتذوقت الفتة بكباب وعدة أنواع من الكبة، اختراع الحلبيين الأعظم ( تخيلوا مدينة تشتهر بـ58 نوعاً من الكبة، ونحن من نتعجب عند سماعنا لأنواع الجبن الفرنسي! )
أكلت المامونية والفستقية ..وللأسف لم يسعفني الوقت لأجرب كل أكلات مدينتي وما أكثرها، وخلال كل ذلك كنت أستمع إلى لهجة أهلي .. ياإلهي ما أصعبها وما أجملها ! .
لم أنس بالطبع أن أعرّج على تمثال “جدّي الأول” أبو فراس الحمداني .. وقفت في حضرته المهيبة كمن يتعرف على جزء من روحه لأول مرة، طلبت منه السماح لتأخري في زيارة “مسقط رأسينا”.. حكيت له أسبابي : لقد نزحنا منذ ألف عام مرغمين ..ولكن كما ترى ها قد عدت، لأن الحلبي لا يمكن له مهما طال غيابه عن محبوبته “سيدة المدن” إلا أن يعود إلى جذوره، واستثناءً عن “خلق الله” لا يستطيع العيش بعيداً عنها مهما طال بعده.
حكيت له عن حياتي في اللاذقية وقلت له إننا سعداء، فنحن “الحلبية” تربطنا بأهل الساحل علاقة من نوع خاص، وبأن أهلها يحبوننا “نحنا الحلبية” وكثيراً ما يقولون لنا بلهجتهم المميزة : “هنتوا ولاد العم”.
اليوم .. وبعد عشرين عاماً على تلك الزيارة اليتيمة أجدُني ملهوفاً لرؤياها من جديد، وخاصةً بعد أن عاشت سبعاً عجاف، ذاقت خلالها “ست المدائن” الأمرّين على يد همج الأرض قبل أن تلفظهم بهمة جيش البلاد .
نعم .. أخجل من نفسي لهجرها مرغماً في عزّ محنتها، فأكتفي مردّداً في نفسي بيت الشعر الذي قاله “جدّي الأول” أبو فراس يوماً : أرَاكَ عَصِيَّ الدّمعِ شِيمَتُكَ الصّبرُ.. أما للهوى نهيٌّ عليكَ ولا أمرُ؟