موسيقى عابرة للأجيال .. العبقري عاصي الرحباني
في لحظات الوعي القليلة، كان عاصي ينظر الى الفضاء، الى خط الأزل و الأبد الذي كان يسمِيه “الزيح” و يقول: “بدي أوصل للزيح، بدي إخترقو، الزيح شغلة كبيرة، لو كانت الحقيقة كبيرة عالأرض، ما كنا تعذبنا و فتشنا عالزيح”.
كان عاصي دوماً يبحث عن سر الكون، سر الوجود، سر الأشياء و يسأل و يسأل، ثم يستسلم و يقول : “بدي روح لعند الكبير، خليه يفتح لي بابو الواسع، فوق بعرف، فوق بحل سر الإشيا”.
هذه الجمل بحسب ابنته ريما الرحباني كانت من أخر ما قاله عاصي الرحباني قبل أن يموت، في 21 حزيران 1986، العبقري عاصي الرحباني الذي شكل مع أخيه منصور ثنائي قدم للموسيقى في هذه المنطقة ألحان وكلمات خلدها التاريخ.
ولد عاصي وهو الشقيق الأكبر في الثنائي في بلدة أنطلياس بلبنان، ووالدهما هو حنا إلياس الرحباني الذي نقل عنه أنه كان يعزف على البزق، تزوج عاصي من الفنانة الكبيرة فيروز،وعرف عنه نزقه وحساسيته وقسوته التي وصلت حد الديكتاتورية فيما يتعلق بالعمل في الموسيقى، ما سبب فيما بعد مشاكل عائلية لكنها لم تمنع الابداع “سألوني الناس” و “زعلي طول أنا وياك”.
في 1937 أصدر عاصي الرحباني مجلة أسماها “الحرشاية” كان يكتبها بيده بالفصحى وبالعامية اللبنانية وتضمنت خواطر ومقتطفات من الشعر وعدة مشاهد مسرحية، ودرس عاصي ومنصور الموسيقى الشرقية من الأب بولس الأشقر من نوته ووأصول الموسيقى الشرقية والأنغام، بالإضافة لدراستهما الموسيقى الغربية لمدة ست سنوات، وانتسب عاصي للأكاديمية اللبنانية، وثم تعرف الرحباني على السيدة نهاد حداد التي تزوجها وغيرت اسمها لـ”فيروز” وغيرت معه تاريخ الموسيقى في المنطقة.
عرف عاصي الرحباني ما يريده من الموسيقى فأعطاها كل ما في جعبته وبالمقابل الموسقيى لم تبخل وردت لعاصي بنفس المحبة، الثنائي الرحباني مع السيدة فيروز أهدوا سكان هذه المنطقة روح من موسيقى على الرغم من وفاة الرحبانيين عاصي ومنصور لكنها ما زالت لحد اللحظة تفرح وتبكي وتؤثر كأنها “بنت اليوم”، وتعاون فيهما مع العديد من الأسماء الكبيرة من فيروز إلى وديع الصافي ونصري شمس الدين وفيليمون وهبي وسعيد عقل وزكي ناصيف وصباح غيرهم كثيرون.
“بحبك ما بعرف كيف” “علموني” ” نسم علينا الهوى” “قالوا العدا” “سنرجع يوما” وغيرها الكثير الكثير من الأغاني والكلمات التي استطاع الرحباني فيها التعبير واخراج كل مافي الشرق من جمال وتقديمه لجمهور بقي وفيا لرجل نقل عنه قوله “الفنان ما بيكبر، أنا بحس الناس كلها أكبر مني”.
الأخوين الرحباني شكلا جزءا من الذاكرة والموروث الشعبي والتراثي لهذه المنطقة، عرفت أغاني الرحابنة بالبساطة في الكلمات وانسيابية الألحان وقدرتها على ملامسة القلوب، بالإضافة للأغاني قدم عاصي مع منصور عدة أعمال مسرحية “ميس الريم” و “جسر القمر” “بياع الخواتم” وبلغ عدد المسرحيات 21 عملا مسرحيا، والتركة الأهم لعاصي هي ابنه الذي خالف والده ذو التوجه الرومانسي الحالم واتجه نحو الحداثة والنقد السياسي أكثر زياد عاصي الرحباني.
أفضل ما يقال عن عاصي ما روته ابنته ريما الرحباني “كنت حبو كتير صرت حبو أكتر ومتلي متل ملايين الناس اللي ربيو على هالفن وحبوه لأن حسوه وما إحتاجوا لا لتحليلات ولا لفلسفات، هيك فات ع قلوبن ببساطة وما عاد طلع منها، متل ما بتقول فيروز”.
أفضل تكريم قد يحظى به انسان بعد موته بثلاثين عاما هو انتشار كلماته وألحانه وانتقالها عبر الأجيال، ما فعله عاصي “غير قابل للصدأ”، خالد، لن يفنى إلا بفناء هذه الأرض، والسؤال يبقى ترى كيف سننقل للرحباني عاصي أن صباحات أغلب سكان هذه المنطقة تبتدأ بما خطت يداه وارتجف قلبه وأنتجت مخيلته؟.