العناوين الرئيسيةمجتمع

“يا مريم البكرُ فقتِ الشمسَ والقمرَ “عيدُ انتقال مريم العذراء.. احتفاء عابر للأديان في سوريا والعالم

يحتفي سكان العديد من دول العالم في 15 آب من كل عام بعيد انتقال أو رقاد السيدة العذراء وفق المعتقدات المسيحية، فيحمل الناس تماثيلها ويطوفون بها في شوارع مدنهم وقراهم.

ويعد يوم 15 آب في بعض الدول مثل فرنسا، وإيطاليا، ولبنان، عطلةً رسمية احتفاءً بهذا الحدث، إذ تحظى شخصيّة العذراء مريم باحتفاء عابر للأديان، فإلى جانب مكانتها الكبرى عند المسيحيين، هي أيضاً المرأة الوحيدة التي خصّها القرآن بسورة كاملة على اسمها.

 

وتحتوي روزنامة الطوائف المسيحية أعياداً كثيرة للاحتفاء بمريم العذراء وتكريمها، لكن 15 آب من كلّ عام أبرزها، لكونه احتفالاً بانتقالها إلى السماء بالجسد والروح، وكتكريم نهائيٍ لها على رسالتها وحياتها، بحسب المعتقدات المسيحية.

وتخصّص بعض الطوائف المسيحية يوماً كلّ شهر، وأسابيع صوم تقديراً لهذه المناسبة، ويكرّس لها “الكاثوليك” شهر أيار من كلّ عام لتلاوة المسبحة الورديّة، وتقام في بعض البلدان أعياداً لمقامات خاصة بها، مثل عيد سيدة “حريصا” في لبنان، وعيد سيدة “فاطمة” في البرتغال، وعيد سيدة “غوادالوبي” في المكسيك.

ويرد ذكر مريم العذراء في الإنجيل والقرآن عند تلقيها البشارة بالمسيح أو النبي عيسى، وعند إنجابها له، وفي محطات أخرى من حياتها، بما يظهر تقواها، وطاعتها لله، وقوّتها، وصبرها، وحكمتها، لكن لا ذكر في النصوص الدينية لوفاتها، ما يجعل الروايات والتأويلات كثيرة.

 

وبغض النظر عن مصدر الاعتقاد الديني بانتقال العذراء إلى السماء، والذي لم تثبته الكنيسة الكاثوليكية كعقيدة إيمانيّة حتى عام 1950، يرجّح أن بداية الاحتفال الشعبي بذلك العيد تعود إلى القرن الخامس للميلاد، ما يفسّر رسوخه في الثقافة الشعبيّة، إلى جانب إلهامه لعدد كبير من الأعمال الفنيّة.

 

موضوع غني لفناني عصر النهضة الأوروبي

 

 

ويعدّ رقاد مريم أو انتقالها إلى السماء، من المواضيع الأثيرة لدى فناني عصر النهضة الأوروبي، إلى جانب رسّامي الأيقونات المشرقية المعتمدة لدى الكنائس الأرثوذكسية.

 

وتصوّر مريم العذراء مرفوعة بمجدها فوق الغيوم، ومحمولة على أكفّ الملائكة، كتعبير عن مكانتها، بما يذكّر أيضاً بالآية القرآنية “إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك”.

 

وتختلف تفاصيل الرسومات بحسب عقيدة أصحابها، فلدى الكاثوليك تظهر مريم كأنّها تُسحب إلى السماء، فيما ينظر تلاميذ المسيح إليها شاخصين.

 

وتظهر العذراء في بعض اللوحات كأنها ترمي زناراً أو حبلاً، كدليل على صعودها للمشككين، وعلى دورها كصلة وصل بين الأرض والسماء، بين البشر والخالق، في حين تبدو راقدة في الأيقونات الأرثوذكسية، والمسيح بجانبها، يتلقى روح أمه، وحولهما جمع من الأتقياء.

 

المثال الأعلى للأمهات في الثقافة الشعبية

 

حظيت مريم العذراء بمكانة كبرى في المعتقدات الشعبيّة أيضاً، فهي الأم، والملكة، والحكيمة، والطاهرة، وشفيعة المؤمنين، والمثال الأعلى لكافة الأمهات، وتتجلّى أمومتها للبشرية، بعطفها الدائم، وبدورها كحارسة للناس المخطئين بطبعهم، من الشرور ومن تجارب الشيطان.

 

وبعكس حواء التي استجابت للأفعى وتسبّبت بطرد الإنسان من الجنّة، تظهر مريم العذراء في العديد من اللوحات والمنحوتات تدهس رأس الأفعى نفسها.

 

وتعد مريم العذراء الشخصية الدينية الوحيدة التي يمتدّ الاحتفاء بها على مدار أشهر السنة، من خلال أعياد متفرقة، بدءاً من البشارة بميلادها، مروراً بخطوبتها ليوسف، وتبشيرها بالمسيح، والحزن على آلامها في أسبوع الآلام، والفرح لفرحها بعد عيد القيامة، وصولاً إلى رقادها أو انتقالها.

 

 مكانة خاصة في سوريا

تنتشر في معظم قرى وبلدات سوريا المسيحية تماثيل مريم العذراء وأيقوناتها، إذ يندر عدم وجود “كنيسة السيدة” في قرية مسيحية، وكلّ كنيسة من هذه الكنائس، تستضيف في عيد الانتقال كلّ عام، ما يشبه مهرجاناً صغيراً.

 

ويتبادل الناس في عيد الانتقال التهاني ويتشاركون الصلاة، ويتلون الترانيم المخصصة للعذراء والتي خلدتها بعض تسجيلات فيروز المعروفة، ومن أشهرها “يا مريم البكر فقتِ الشمس والقمر”.

 

“لم يَعد موتاً إنما انتقال”

تحدث الأب رأفت أبو النصر لتلفزيون الخبر عن دلالات وأهمية عيد انتقال مريم العذراء قائلاً: ” فلنبدأ بقول القديس يوحنا الدمشقي، كيف ينتقل عنصر الحياة إلى الحياة بواسطة الموت، يتجاوز موت والدة الإله المعطية الحياة مبدأ الموت، إذ لم يَعُدْ يُسمّى موتاً، إنّما “رقادٌ” و”انتقالٌ إلهي وهجرةٌ نحو الإله”.

 

ويتابع الأب “أبو النصر”: “وحتّى وإن سُمّي موتاً، فهو موتٌ معطٍ للحياة، لأنّه ينقلنا إلى حياةٍ سماوية خالدة”.

 

وأشار “أبو النصر” إلى أنه: ”اخترنا كلمة رقاد إشارة إلى وفاة مريم العجيبة المجيدة، لأن وفاة والدة الله بحسب المعتقد المسيحي، لا يمكن أن تكون وفاة عادية كسائر الناس، وتشير إلى حدثين يصعب فصلهما في إيمان الكنيسة، وهما موت العذراء وقيامتها وصعودها إلى السماء”.

 

وتابع الأب “أبو النصر” لتلفزيون الخبر: “فهمت الكنيسة منذ مجمع (أفسس) أن بين الأم والابن وحدة مطلقة، ومع أن مريم في الأرض والزمان فإن المسيح في السماء والأبدية، إذ تؤمن الكنيسة أنه لابد لابن الله أن يُدخل خادمة التجسّد أمه في مجده”.

 

وأضاف الأب “أبو النصر”: “صارت مريم أُمّاً لله وحصلت على المجد، وعلى هذا الأساس لم تنل مريم العذراء التي تكرمها جميع الأديان فساد القبر والموت، وهكذا لم يفصل أي شيء بين الأم والابن حتى في الجسد”.

 

وأشار الأب “أبو النصر” إلى أن: ”أصل التسمية الصحيح هو (عيد الرقاد) وانتقال السيدة مريم العذراء إلى السماء، أما كإيمان شعبي فقد درج اسم عيد السيدة”، مشيراً إلى أن: “السوريون عائلة واحد رغم اختلاف وتنوع الأفكار والمعتقدات، إلا أننا جميعاً أبناء هذا البلد ونحن أساسه وعماده”.

 

شخصية جامعة لكل السوريين

 

يقول أندريه ديب (من سكان قرية القلاطية بريف حمص الغربي)، لتلفزيون الخبر إن: “عيد السيدة العذراء هو عيد رقادها ومن ثم انتقالها إلى السماء لأنها أم مخلصنا يسوع المسيح، ويسمى هذا الاحتفال بالتقليد الكنسي فصح الصيف، وبالتالي للعذراء مريم موقع مهم في حياة الناس، ولذلك يطلق على الكثير من الفتيات اسم مريم خلال طقس المعمودية وكذلك الأمر بالنسبة للكنائس”.

 

وأضاف أندريه أن: “مريم العذراء شخصية جامعة تجمع كل المؤمنين من الديانات والطوائف، وليست حكراً على طائفة محددة، فيشهد عيد انتقالها إلى السماء احتفالات تضم كل أبناء سوريا دون استثناء، فهي رمز الحب والإيمان بالنسبة للجميع”.

 

وأشار”ديب” إلى: “وجود كنيسة السيدة (المنتابية) في القرية، ويعود اسمها إلى ناسكة كانت تسمى المنتابية باركتها السيدة العذراء بزيارتها على عهد السيد المسيح أي منذ حوالي ألفي عام، وكانت معروفة بحبها للدين المسيحي والتقوى، ومنحت لذلك صفة القداسة”.

 

وتابع “ديب”: “أصبحت فيما بعد أرض “المنتابية” مزاراً للكثيرين ممن يقصدونها لشفاء الأمراض وأخذ البركة من الكنيسة وخصوصاً في عيد رقاد السيدة العذراء المصادف لتاريخ 15 آب من كل عام، حيث يقصد الكنيسة عشرات الآلاف من سوريا وخارجها”.

 

مناسبة للفرح والإيمان

يقول إيهاب (محامي، من قرى ريف صافيتا) لتلفزيون الخبر إن: “عيد السيدة مريم العذراء يعد مناسبة للفرح والإيمان لجميع طوائف المجتمع وليس للمسيحيين فقط، إذ يتفق الجميع على قدسيتها ومكانتها، بل ويطلق الكثيرون اسمها على أولادهم”.

وأضاف إيهاب: “نشارك إخوتنا المسيحيين الفرح بعيد السيدة في قريتنا (حابا)، التي تنظم الاحتفالات سنوياً بعد القيام بالصلوات في الكنيسة، ونتبادل التهاني جميعاً فيما بيننا، فالسيدة العذراء عابرة للأديان والطوائف بكل تأكيد”.

 

هريسة العيد.. طقس أساسي

يقول ياسر (60 عاماً، من قرية تنورين بريف حمص الغربي) لتلفزيون الخبر إن: “من تقاليد أعياد القرية في عيد السيدة صنع الهريسة بساحة الكنيسة، وكان الجميع يشارك في إعدادها بعد تقاسم الأدوار فيما بينهم، فالمختار يقدم الذبائح والخوري يرش الماء بعد أداء الصلاة، والرجال يشعلون النار والأطفال يجمعون الحطب والنساء يطبخن”.

وتابع ياسر أن: “القرى كانت تتنافس فيما بينها بالدست الأكبر والطعم الأزكى، والدست هو وعاء كبير جداً يتسع لكميات ضخمة من الطعام، بل ولا تكتمل طقوس العيد إن لم تطبخ الهريسة وتوزع على السكان والزائرين”.

 

آثار إيجابية بتنشيط الحركة السياحية

 

تحتفل جميع الطوائف المسيحية في سوريا، وتحديداً في مناطق وادي النصارى ومشتى الحلو والكفرون وصافيتا وقطينة ومحردة وصيدنايا بعيد السيدة مريم العذراء كل عام، وتقيم المهرجانات والكرنفالات في ساحاتها احتفالاً به وتكريماً لها.

 

ويشكل عيد السيدة أيضاً مناسبة خاصة تجمع العائلات حتى ممن يقطنون خارج البلاد، وبشكل خاص في قرى وبلدات منطقة وادي النصارى بريفها الغرب ككرنفال “مرمريتا” و”رباح” و”كفرة” و”الحواش”.

 

وتحول هذا العيد إضافة لقيمته الروحية والدينية إلى مناسبة فنية سنوية، تساهم بشكل كبير في تنشيط الحركة السياحية في تلك المناطق، مع إحياء الحفلات عبر فنانين شعبيين محليين أو من خارج سوريا، وبشكل خاص من لبنان.

 

وانتشرت منذ نحو أسبوعين على مواقع التواصل الاجتماعي أسعار بطاقات حضور حفلات عيد السيدة في الرابع عشر من آب الجاري بوادي النصارى ومشتى الحلو وصافيتا، وترواحت أسعار البطاقات ما بين 200 ألف ووصلت إلى مليون ونصف المليون ليرة لأحد النجوم اللبنانيين.

 

ويقدر سعر البطاقة للحفل الواحد في مطاعم ومتنزهات القرى البعيدة عن التجمعات السكانية الكبيرة التي تعاقدت مع فنانين شعبيين محليين ب200 ألف ليرة، بينما وصلت إلى ما يقارب مليون ليرة في البلدات الكبيرة كالحواش ومرمريتا ومشتى الحلو.

 

وكانت أغلى البطاقات للمطاعم التي تعاقدت مع نجوم مشهورين سوريين ولبنانيين.

 

يذكر أن فيروز غنت الكثير من الترانيم الخاصة بالسيدة العذراء منها:

 

يا مريم البكرُ فقتِ الشمسَ والقمرَ وكلَ نجمٍ بأفلاكِ السماءِ سَرَى

يا أمَ يسوعَ يا أمي ويا أملي لا تهمليني متى عنّي الخطا صدرا

يا نجمة الصبحِ شعِّي في معابِدِنا ونوّري عقلنا والسمعَ والبصرا

يا أمّنا ورجانا مكّني أملي وباركيني لكي استاهل الظفر

 

عمار ابراهيم – تلفزيون الخبر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى