الحكاية الكاملة لبداية و نهاية أشهر الشركات الحلبية : شركة الغزل و النسيج
بعد الإنهيار الإقتصادي العالمي الكبير في عام 1929، الذي وصلت آثاره إلى التجار الحلبيين وأفلس العديد منهم حينها، وبعد وصول الطاقة الكهربائية عام 1929 لحلب بدأت النهضة الصناعية في حلب وعمادها الكهرباء والآلات الميكانيكية بدلاً من الآلات اليدوية .
احتاجت النهضة الصناعية إلى رساميل كبيرة لم يكن من الممكن جمعها إلا عبر الشركات المساهمة التي تطرح أسهمها للإكتتاب العام و يشتريها جميع المواطنين ، فيقوم هؤلاء بوضع مدخراتهم فيها، ليشكلوا معاً رأسمالاً ضخماً مؤهلاً لعمل صناعي مهم .
من المعروف أن أهم الصناعات على الإطلاق في حلب تاريخياً هي الصناعات النسيجية .
في البداية كانت أغلب الأنوال تنسج الحرير الطبيعي، ومع وصول الحرير الصناعي المنافس لم تعد صناعة منسوجات الحرير الطبيعي مجزية اقتصادياً، فتوجهت الصناعات النسيجية نحو المنسوجات القطنية .
لمحة عن زراعة وصناعة القطن في سورية
جاء في المجموعة الإقتصادية لغرفة تجارة حلب الصادرة عام 1928 م أن المساحة المزروعة بالقطن في ولاية حلب فقط عدا بقية المناطق السورية بلغت ما يزيد على 1500 هكتاراً تنتج حوالي خمس عشر ألف بالة قطن وسطياً.
وبما أن وزن البالة الواحدة حوالي 180 كيلو غرام فيكون وزنها الإجمالي 2700 طن . علماً أن الإنتاج الحالي لسوريا من القطن يبلغ حوالي 650 ألف طن .
كان المواطنون العاديين ( خاصة النساء ) يقومون بغزل كمية بسيطة من القطن الخام يدوياً (الغزل هو مرحلة تحويل القطن إلى خيوط ) ليُصّنع منه داخل البلاد على الأنوال اليدوية قماش قطني يدوي رديء ( قماش قطن خام ) ويصدر الباقي من القطن الخام .
أما الغزول القطنية الجاهزة للنسج ذات النوعية الفاخرة فكانت تستورد من الهند وانكلترا لتصّنع على الأنوال اليدوية المحلية و ينتج قماشاً قطنياً محلياً جيداً.
كان عدد أنوال النسيج القطني بحلب التي تُصّنع قماشاً قطنياً يدوياً من الغزل الوطني و المستورد حوالي 3500 نول يدوي يعمل عليها حوالي 17000 عامل.( اذا افترضنا ان كل عامل نسيج لديه اسرة من ثلاثة أشخاص اي ان ثلث سكان حلب كانوا على علاقة مباشرة بصناعة النسيج ، حلب التي كان عدد سكانها حينها يقدر بحوالي مائة وخمسين ألف نسمة ) .
أما المنسوجات القطنية الجاهزة فكانت تستورد لحلب لخياطتها، من انكلترة واليابان وايطاليا وبلجيكا وشيكوسلوفاكيا وفرنسا .
في عام 1930 مع وصول الطاقة الكهربائية لحلب بدأ اصحاب معامل النسيج استعمال الكهرباء لتحريك الآلات وتشغيلها، ولمسوا زيادة الطاقة الإنتاجية وبالتالي شعروا بفارق الأرباح .
تأسيس الشركة السورية للغزل و النسيج ( الشهيرة باسم شركة الغزل و النسيج ) عام 1933 م
أدرك الشقيقان محمد وأحمد أولاد خليل المدرس ( وهما اللذان ورثا مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية تصل لحوالي عشرة آلاف هكتار تبدأ من قرية رسم العبد قرب حلب وصولاً الى الرقة على ضفاف الفرات على بعد ثمانين كيلومتراً عن حلب ) أن إنتاج أراضيهم القطني إن تم تصنيعه وطنياً بدلاً من تصديره قطناً خاماً يدر ربحاً أكبر
فقررا إنشاء شركة آلية للغزل والنسيج تبدأ من شراء القطن الخام ثم حلجه ثم غزله ثم نسجه ثم صباغته وبيعه لداخل السوق المحلية أو تصديره لخارج البلاد .
ودعيا مجموعة من التجار الحلبيين المعروفين حينها لتأسيس شركة مساهمة وهم :
الحاج علي خضير الذي كان يعمل مع أخيه الحاج توفيق خضير في مجال تصنيع الأنسجة الحريرية على الأنوال اليدوية و تصديرها لليمن ، والحاج نوري الحكيم الذي كان يعمل بتجارة الأقمشة و المواد الغذائية ، والحاج نديم وفائي الذي كان يعمل في تجارة المواد الغذائية ( تصدير السمن العربي لخارج البلاد ) ، والحاج توفيق ميسر من تجار المواد الغذائية ( تصدير زيت الزيتون واستيراد الرز والسكر وغيرها من أصناف غذائية )، والحاج مصطفى شبارق الذي كان يعمل في مجال تجارة الحبوب وصناعة المطاحن .
كما دعيا الدكتور عبد الرحمن كيالي باعتباره زعيماً وطنياً في الكتلة الوطنية تقلد عدة وزرات في الحكومات الوطنية ومن أصحاب الأراضي الزراعية . وألبير حمصي صاحب بنك حمصي بحلب .
في عام 1932 تقرر أن يكون رأسمال الشركة مائة ألف ليرة ذهب عثماني مقسمة إلى خمسين ألف سهم، طُرح السهم الواحد للاكتتاب العام بليرتين ذهب عثماني.
بادر المؤسسون إلى شراء عشرين ألف سهم فوراً، ولحسن سمعة المؤسسين بادر المواطنون لبذل أكبر جهد لجمع قيمة الأسهم ، فكانت النساء تبيع مصاغها البسيط للإكتتاب بسهم واحد، ومنهن من بعن فرشهن الصوفية ومتاعهم المتواضع للإكتتاب.
تم شراء سبعة عشر ألف وخمسمائة سهم من قبل المواطنين، و بذلك تمت تغطية ثلاثة أرباع رأس المال بقيمة خمس وسبعين ألف ليرة ذهبية . قبلت الجهات المختصة إطلاق الشركة بثلاثة أرباع رأس المال المعلن . وانطلقت الشركة في عام 1933 .
انتُخب محمد خليل مدرس رئيساً لمجلس الإدارة، والحاج نديم وفائي خازناً عاماً، والحاج نوري الحكيم أميناً للسر .
تقرر تعيين المحامي الكبير الأستاذ أسعد بك الكوراني مستشاراً قانونياً للشركة، وهو الذي تولى وزارة العدل لاحقاً ووضع العديد من القوانين السورية المعمول بها حتى هذا التاريخ .
اشترى مجلس الإدارة أرضاً لبناء المعمل في منطقة عين التل على طريق المسلمية ، وبدأ بتأسيس وبناء المعمل وتجهيزه بدءاً من المحلجة إلى المغازل إلى الأنوال الميكانيكية التي تعمل على الكهرباء وصولاً إلى المصابغ التي تصبغ النسيج القطني .
بلغ عدد المغازل في الشركة في بداياتها سبعة آلاف وخمسمئة مغزل .( كانت كل آلة غزل يُركب عليها ما بين مائة إلى مائة وخمسين مغزلاً ) .
كان معملهم متكاملاً يبدأ من القطن الخام وصولاً الى القماش القطني المصبوغ، وكانت البضائع من نوعية جيدة رخيصة الثمن مقارنة بالنسيج القطني المستورد.
افتتحت الشركة منفذين لبيع لمنتجاتها بالمفرق في خان الحرير والجديدة، ومنفذاً للبيع بالجملة في خان الجمرك .
أرباح الشركة خلال الحرب العالمية الثانية
عندما نشبت الحرب العالمية الثانية في عام 1939 انقطعت الطرق البرية والبحرية ولم يعد استيراد الغزل والنسيج القطني الأجنبي ممكناً ، فصار إنتاج الشركة مطلوباً بشدة فحققت أرباحاً كبيرة .
في عام 1942 وزعت الشركة أرباحاً للسهم الواحد 100 ليرة سورية إضافة لخمس ليرات ذهب انكليزية .
أما في بقية السنين فكانت الأرباح تصل لحوالي 100 ليرة سورية للسهم، و بما أن الليرة الذهبية كانت حينها تعادل حوالي خمس ليرات ونصف الليرة السورية، أي أن أرباح السهم المُشترى بليرتين ذهبيتين كانت تصل سنوياً إلى حوالي عشرين ليرة ذهبية.
عندما صدر قانون التجارة السوري عام 1949، فرض القانون أن يكون رأسمال الشركة بالليرات السورية بدلاً من الليرات الذهبية العثمانية، فتحدد رأس المال بعشرة ملايين ليرة سورية.
كان قد توفر للشركة إحتياطي أرباح جعلها توزع للمساهمين عن كل ثلاثة أسهم يملكونها سهماً مجانياً وبذلك اكتمل رأسمالها المحدد، بعدما انطلقت بثلاثة أرباع رأس المال عند تأسيسها.
معاملة مجلس الإدارة لعمال الشركة
اتصفت معاملة مجلس إدارة الشركة بالمعاملة الحسنة مع العمال ورؤساء الأقسام ، فكان أعضاء مجلس الإدارة – وهم من كبار الأغنياء في ذلك الوقت – يزورون العامل حين يمرض في بيته ويشاركون في أفراحه و أتراحه. وقبل توزيع أرباح الشركة كان العمال يتلقون تعييناً سنوياً من المواد الغذائية .
ارتاح العمال مادياً ومعنوياً وشعروا بالإنتماء لشركتهم.
روى إبن أحد هؤلاء العمال الفنيين أن والده إذا ما اتصلت به الشركة في الساعة الثالثة فجراً لتخبره بتعطل إحدى الآلات كان يبادر مسروراً للالتحاق بالعمل فوراً لإصلاح الآلة و تشغيلها .
أثناء الحرب العالمية الثانية افتتح مجلس الإدارة داخل المعمل فرناً يوزع الخبز مجاناً على العمال .
كما تُروى قصة شهيرة عندما أقام مجلس الإدارة حفلاً بمناسبة توسعة المعمل دعا إليه عدداً من العمال المتميزين ، تقرر أن يقدم لهم الطعام بأشواك وملاعق من الفضة، فاعترض البعض محتجين أن العمال يمكن أن يسرقوها، و لكن أصر مجلس الإدارة على هذا الأمر ، فعلا لم تُفقد أياً منها .
المستفيدون من الشركة
إضافة لعمال الشركة كان حملة أسهم الشركة وهم من المواطنين العاديين سعداء بالأرباح التي تقدمها لهم الشركة، لدرجة ان القضاة الشرعيين عندما كانوا يُسألون عن أضمن طريقة لحفظ حقوق أموال الأيتام كانوا ينصحون بشراء أسهم الشركة لأنها رابحة دائماً .
أما أعضاء مجلس الإدارة فكانوا يتقاضون تعويضات واقعية ومجزية تعادل الجهد الذي يبذلونه لنجاح الشركة إضافة لأرباح أسهمهم .
وكان المواطنون العاديين مسرورين للحصول على أقمشة وطنية رخيصة بجودة عالية.
أما وزارة المالية فكانت تحصل على ضرائبها بصورة فعلية وحقيقية تبعاً لأرباح الشركة دون أي تهرب ضريبي .
رؤساء مجلس الإدارة
تعاقب على رئاسة مجلس إدارتها حتى بداية الخمسينات محمد خليل المدرس ( الذي توفي عام 1958) ، ثم تعين رئيساً لمجلس الإدارة الحاج نوري الحكيم ، ثم الدكتور عبد الرحمن الكيالي .
في عام 1959 تولى رئاسة مجلس الإدارة إدمون حمصي إبن ألبير حمصي أحد مؤسسي الشركة. ثم أدار شؤون المصرف العائد لوالده ألبير .
توسع أعمال الشركة
في عام 1954 قرر مجلس الإدارة توزيع سهم مجاني واحد لكل سهم، فازداد رأس مال الشركة إلى عشرين مليون ليرة سورية وحقق حملة الأسهم أرباحاً مضاعفة .
تعرض نجاح الشركة لبعض العقبات بعدما توفي خازن الشركة الحاج نديم وفائي، واستطاع أحد التجار شراء مئتي سهم مما خوله لترشيح نفسه لعضوية مجلس الإدارة، عندما لم ينجح بالانتخابات قام برفع دعوى على الشركة زاعماً تلاعبها بالأرباح و تم التحقيق مع أعضاء مجلس الإدارة قضائياً من قبل القاضيين الشهيرين بنزاهتهما سعدي سلطان وسعدي بسيسو .
ثبتت سلامة حسابات الشركة، فتقرر سجن التاجر المشتكي لثبوت إفتراءه على أعضاء مجلس الإدارة لمدة ثلاث سنوات .
مشاريع خارجية
في بداية الخمسينات نجح الصناعيان السوريان من آل صباهي وآل شربجي في إقامة معملين للغزل القطني في مصر وحققا أرباحاً كبيرة، فقرر بعض أعضاء مجلس الإدارة شراء أراضٍ للشركة في مصر لزراعتها بالقطن المصري الشهير ذي التيلة الطويلة و إنشاء معملاً للشركة هناك .
عارض بقية الأعضاء هذا المشروع معلنين أن ( المال في غير بلدك ما هو إلك ولا لولدك )، فعلا فشل المشروع و بيعت الأراضي الزراعية التي تم شراءها هناك .
تأميم أملاك الشركة
في عام 1958 تزامنت أعمال توسعة المعمل باستيراد وتركيب المجموعة الرابعة من المغازل مع إعلان الوحدة مع مصر.
في عام 1959 أصدر الرئيس الراحل جمال عبد الناصر قراره بتأميم الشركات الخاصة، وتم تأميم أملاك الشركة. وتم القضاء على مدخرات الآلاف من المواطنين الحلبيين وانتهت شركة الغزل والنسيج و تحولت آلاتها تدريجياً إلى خردة
المحامي علاء السيد – تلفزيون الخبر