التغريبة السورية.. سوريون وسوريات وحكايا الهجرة واللجوء
“لكل شيء إذا ما تم نقصان”، تبدو البدايات الصحفية المُعتمدة على كليشيهات أدبية أو شعرية بدايات ساذجة أو غير احترافية، لكن عند الحديث عن حالة الهجرة السورية، كيف يمكن توصيف الواقع بأسلوب أصدق من “أبو البقاء الرندي” الذي أكد في شعره استحالة بلوغ الكمال في هذه الحياة.
لماذا الحديث عن الكمال هنا؟ ببساطة لأن السوريين قسمهم حسد بعضهم على وجع البعض الآخر، فالمغترب يحسد مَن في الداخل على البقاء بين الأهل والخلان، أما من لم يتمكن من السفر فيحسد المهاجر أو المغترب على تنعمه بمقدرات الحياة كما يجب أن تكون، في بلاد لا يوجد فيها قطع للكهرباء ولا للماء ولا أزمات محروقات ورسائل بنزين وغاز ومازوت، دون الانتباه لحجم الانكسار العاطفي الذي يُعاني منه.
وهاجر السوريون منذ أواخر القرن التاسع عشر، بحثاً عن تطوير حياتهم، فمنهم من قصد دول أمريكا اللاتينية، وآخرون توجهوا نحو الجوار العربي، وغيرهم توجه لدول أُخرى كالولايات المتحدة وأستراليا ودول أوروبية، وتفاوتت نسب الهجرة في سوريا بين ارتفاع وانخفاض، تبعاً للاستقرار السياسي والاقتصادي الذي يختلف من حقبة لأخرى.
ومع بداية الحرب على البلاد، تلقف السوريون تغريبتهم، بالكثير من الوجع والأمل والخوف والحلم، فانطلقوا عبر “مراكب الحظ” التي ربما تغدو “مراكباً للموت” كما حصل مرات عديدة، نحو بلاد الله الواسعة هرباً من الحرب، والإرهاب الذي دفعهم نحو الغربة تاركين ذكرياتهم وأحلامهم تحت ركام مناطقهم.
وتصاعدت موجات هجرة السوريين القسرية منذ 2012، لتبلغ ذروتها عام 2015، ويصبح هذا العام “عام الغربة السورية” إقليمياً وعالمياً، مع تجاوز نسبة السوريين في بورصة اللجوء، أكثر من 50% من نسبة اللاجئين عبر العالم، بحسب إحصائيات المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين بتاريخ 23 كانون الأول 2015.
حكايات الهجرة..
تقول رشا وهي موظفة في شركة برمجيات في هولندا، لتلفزيون الخبر “هون الشوارع ناشفة ما فيها حياة، لمّا كنّا بسوريا كانت الشوارع مليانة، هي الضوجة كتير مشتاقينلها، هنا تتحول لآلة عمل كئيبة، لا تجد متسعاً للراحة بعد نهاية وظيفتك، لا تملك رفاهية (التمشاية) بالشارع لكون جميع الأسواق تغلق بعد نهاية الدوام الرسمي”.
وتكمل رشا التي غادرت سوريا عام 2015 “هون ماحدا لحدا، إذا وقعت بتوقع لحالك هي مشكلتك أنت وحياتك أنت، هي ضريبة الاستقلالية الغربيّة، للحقيقة في إيجابيات أكبر بكتير من أي سلبية، فأنا وصلت لهون وعمري 19 سنة، لا أملك سوى الشهادة الثانوية، والرعب من المستقبل يسيطر على مخيلتي”.
“لكن أبواب النجاح كثيرة في هذه البلاد، سواء عبر الجامعة أو العمل أو أي طريق أخر، فالسبل مُتاحة لتأمين حياة كريمة، عدا عن احترام الجهد المبذول فمستحيل أن يضيع حقك أمام واسطة ومحسوبية، ماذا تُنتج تجد مقابله احترام وتقدير”.
وتحدّث محمد (طالب ماجستير إدارة أعمال في فرنسا)، لتلفزيون الخبر “أهم إيجابية في الاغتراب لاسيما في الدول الأوروبية، أنك تفهم أن القانون حرفياً فوق الجميع ويطبّق بكل قوة وعدل، عدا عن الفرص العلمية والعملية المتاحة، والتي لا يمكن أن يحصل عليها أي فرد في بلادنا، هنا اكتشفنا مدى ضعف منظوماتنا التعليمية والظلم الواقع على العامل موظفاً كان أو حرفياً وفي أي مؤسسة”.
وينوّه محمد الذي غادر من سوريا إلى لبنان وانطلق منه إلى الغرب عام 2019، إلى أن “الاندماج الفكري وموضوع اللغة، يشكلان حاجزاً يمنع اللاجئ من التفاعل الاجتماعي”.
وأضاف “محمد”، أن “عامل اللغة خصوصاً في الدول التي لا تتعامل باللغة الانكليزية، يجعلك خارج هذه المجتمعات ويؤخر تطورك، ويضاف إلى ذلك موضوع الاندماج، هذه المجتمعات تملك أدبيات وثقافات مختلفة عن بيئتنا، ضع هذين العاملين مع الانتكاسات العاطفية جراء الغربة، تفهم سبب عدم تأقلم شريحة من السوريين مع البيئات التي هاجروا إليها”.
واعتبر جواد الذي غادر سوريا عام 2020 ويعمل الآن كمهندس في شركة تطبيقات توصيل طلبات في ألمانيا خلال حديثه مع تلفزيون الخبر، أن “الإيجابيات والسلبيات تعتمد على السبب الذي دفع الفرد للسفر، إذا كانت الخطوة دون هدف محدد، تكون الضريبة خسارتك لعائلتك وذكرياتك ومحيطك العاطفي، الذي يصعب إعادة نسجه في الغرب، وذلك دون مقابل معادل لهذه الخسارة”.
وأكمل جواد، أنه “أما من يطلب السفر لأجل الدراسة، فهو في بلدان تصنيف جامعاتها من ضمن أول 50 جامعة على الترتيب العالمي، وبالتالي مجالات العمل ستكون أوسع وأفضل، ما يعني رواتب أعلى ورفاهية أكبر، على الرغم من الضرائب الكبيرة، لكن ذلك يوفر ضمان صحي مهم وخدمات نوعية”.
“هاد يلي صحلي شو ساوي” تعبّر حسناء خريجة هندسة زراعية في جامعة دمشق مُغتربة في دولة غانا الأفريقية في بداية حديثها عن غربتها، وتضيف “الغربة تُجبر الفرد على تقبّل الآخر كون الاحتكاك يكون مع أشخاص من مختلف الجنسيات والخلفيات الاجتماعية، علاوة على أن مردود العمل في البلدان الغربية يجعلك تلتفت لتقوية ذاتك ومهاراتك، وهو ما يستحيل إنجازه في سوريا، كون هم تأمين لقمة العيش هو المسيطر”.
وتوضح حسناء، أن “أحد أهم نقاط القوة في الغربة، خصوصاً لشابة وحيدة مثلي تقتحم سوق العمل، أن المجتمعات خارج بلداننا لا تفرق بين (بنت وصبي)، فلا شيء حكر على الرجال دون النساء”.
وتختم حسناء حديثها بغصة “هون بتتعود تكون لحالك، هي النقطة كانت حلم بسوريا، بس هون آخر النهار بترجع على بيت فاضي مافي غيرك أنت والعفش، غير أنو عمرك بالغربة عم يمرق بسرعة، الوقت بيسرقك على طول”.
في النهاية لم تكن الغربة أو الهجرة عند الغالبية سوى خيار الضرورة، الحرب فرضت على السوريين/ات خيار اللجوء والهجرة إلى بلدان العالم، دون أن تستطلع آراءهم أو تسألهم عن خياراتهم.
بل كانت، بكل ما ضخ فيها المستفيدون منها من إرهاب وتدمير، عاملاً يدفع الشباب والشابات إلى السعي للخروج، إذا لم يكن لبناء مستقبلهم، فلمساعدة عائلاتهم في ظل التدهور الاقتصادي الحاكم بأحكامه حياة المواطنين في الداخل، وتحول لاحقاً إلى أحد أهم أسباب الهجرة والسفر في مرحلة ما بعد انتهاء الأعمال العسكرية بنسبة كبيرة من المناطق.
جعفر مشهدية – تلفزيون الخبر