تلفزيون الخبر في قلعة حلب .. جنود مجهولون يجسدون مقولة الحلبيين ” بيتك بالقلعة ”
أن تكون بحوزتك مفاتيح أبواب قلعة حلب ..!
قد يكون ذلك أشبه بالخيال، لكنه حقيقة بالنسبة لموظفي قلعة حلب، الذين أوكلت إليهم مهام العمل فيها وإدارة شؤونها، ما جعلهم يجسدون التعبير المجازي للمقولة المتداولة بين الحلبيين، “بيتنا بالقلعة”.
فهم بطبيعة الحال يقضون ساعات عملٍ تعد الأطول من تلك التي يمضونها في بيوتهم، حتى باتوا يشعرون بالفعل أن القلعة بيتهم الثاني، ويعتنون بتفاصيلها يومياً ليس على قدر المردود المادي الذي يحصّلونه آخر الشهر، بل على أساس انتمائهم للمكان.
وهذا ليس مدحاً أو مجاملة، وإنما في زيارة غير اعتيادية إلى قلعة حلب، رافق تلفزيون الخبر موظفي قلعة حلب في يوم عملهم، ورصد من خلالهم تفاصيل ربما تروى لأول مرة.
ابتسامة واحدة .. وشغف يتجدد
ما بدا واضحاً من الدقائق الأولى لتلك الزيارة، أنّ موظفي الاستقبال مثلاً، يبدو وكأنهم متفقون ضمنياّ مع عناصر الشرطة السياحية على “ابتسامة واحدة”، يحرصون على إبقائها مرسومة على وجوههم طوال ساعات الدوام.
فما إن تطأ قدماك أولى درجات القلعة وتقترب من بابها الأول، حتى يستقبلك عنصر من عناصر الشرطة السياحية، بشوش الوجه، بهيّ الحلّة والهندام، يلفحه لون الشمس، يمتلك من اللّباقة والإقدام ما يجعله مبادراً لمساعدة من يحتاج المساعدة في صعود أدراج القلعة مثلاً، وفيه من التمرّس والكفاءة ما يجعله يستقبل الزوار الأجانب بثلاث لغات أجنبية.
وفي الوقت الذي ربما يطغى فيه الروتين على التفاصيل اليومية لأي موظف في مكان آخر، يعيش موظفو قلعة حلب سحراً خاصاً وشغفاً يتجدد كل يوم، بحكم العمل، كما يقول “جعفر محي الدين” الموظف المسؤول عن كوّة قطع التذاكر، في حديثه لتلفزيون الخبر.
واعتاد “محي الدين” أن يبدأ يومه باكراً مع حرّاس القلعة وعناصر الشرطة السياحية، فيفتح الباب الأول للقلعة، أي باب غرفة قطع التذاكر، ثم يبدأ مع زملائه باستقبال الزوار.
وبينما يكمل “محي الدين” حديثه لتلفزيون الخبر، يسترق النظر بين حين وآخر إلى صورة ابنه الشهيد الموضوعة خلفية على جواله، وربما من خلالها استمدّ قوته وابتسامته، قائلاً: “لولاهم لما كنا هنا الآن..”
فيما يعود “محي الدين” بالذاكرة ليخبرنا عن اليوم الأول في العمل، بعدما أعيد افتتاح أبواب القلعة أمام الزائرين، عام 2018، إذ يقول لتلفزيون الخبر: “أذكر أننا استقبلنا يومها 3 آلاف زائر من أهالي حلب، بعضهم صعد أدراج القلعة حافي القدمين، إيفاءً لنذر كانوا قد قطعوا عهداً على أنفسهم بإيفائه، في حال تمكنوا من زيارة القلعة مجدداً، بعد سنوات طويلة من حرمانهم رؤيتها.. وهذا ما حدث يومها”.
يعدّ “محي الدين” من بين الموظفين القدامى في قلعة حلب، والخبرة تجعله يرصد تعابير وجوه الناس، في اللحظة التي يشعرون بها بعظمة المشهد، على حدّ تعبيره، عندما يقتربون شيئاً فشيئاً من باب القلعة.
الأمر الذي جعله يميّز ما إذا كان الزائر يزور القلعة لأول مرة أم سبق له زيارتها. فيلاحظ “محي الدين” تغيّر وجوه الزائرين لقلعة حلب، بالمقارنة مع سنوات ما قبل الحرب، إذ يقول: “قبل الحرب كانت الوجوه الأجنبية كثيرة، بينما الآن هناك وجوه أجنبية تزور قلعة حلب، لكن الشرائح الأبرز هم الفتية الذين ولدوا في الحرب وكبروا خلال سنواتها، والآن بات بعضهم يزور القلعة لأول مرة”.
أحجارها تمنحنا طاقة إيجابية
وبينما يمنح موظف الكوّة تذاكر الدخول للزوار، يشاركه زميله “ياسر المصطفى” استقبال القادمين بابتسامته الخجولة، وكلماتٍ من التأهيل والترحيب، كمن يستقبل الضيوف على باب بيته، مشيراً لهم بيده إلى الأعلى: “تفضلوا .. تفضلوا”
يقول “ياسر المصطفى” في حديثه لتلفزيون الخبر أن تعلّقه بقلعة حلب دفعه لأن يرفض فرصة عمل أفضل، عُرضت عليه مؤخراً، واضعاً يده على قلبه ومضيفاً: ” فيها سحر بيشدني لدرجة بحس بضيقة يوم العطلة.. ما بحب اترك القلعة.. أنا هون مرتاح”.
ويعتقد “المصطفى” أن تحسين مزاج الزائر واحدة من مهامه أيضاً، إذ يقول: “كثيراً ما يأتي زائرون إلى القلعة ونلحظ على وجوههم أنهم مثقلون بهموم الحياة، ونحن أيضاً مثلهم، لكننا بحكم التواجد اليومي في القلعة ربما نستمد من حجارتها طاقة إيجابية، فنحاول نقلها للزائرين”.
مدير القلعة .. جهد واضح
وبينما ينظّم موظفو الاستقبال دخول الزوار إلى القلعة، لا يخفي جهداً مديرها “أحمد الغريب” لتذكير الزوار لا سيما الفتية الصغار منهم، بقواعد الزيارة وتعليماتها، وفي مقدمتها، عدم تسلّق الأماكن المرتفعة داخل القلعة، حرصاً على سلامة الزوار، وعدم إدخال الأطعمة والمشروبات سوى الماء.
الأمر الذي من شأنه أن يحفظ خصوصية المكان ويُشعِر الزائر بقيمة الوقت الذي سيمضيه خلال الجولة، فالزائر بات في حضرة “قلعة حلب” ولا وقت الآن لتناول الطعام، بل للتعرف على حضارة المكان وإغناء الروح بجماليته.
ويعدّ مدير قلعة حلب “أحمد الغريب” من بين المتخصصين الأكثر إلماماً بتفاصيل قلعة حلب، إذ أدخل نفسه في رحلة طويلة من البحث العلمي حول الأماكن الأثرية لا سيما قلعة حلب، ومنذ أن تسلّم مهام إدارتها، عام 2016، اعتبر ذلك تكريماً له، على حدّ تعبيره
لا سيما وأن المهمة التي أوكلت إليه، لم تكن عادية حسب ما يقول: “فهذه أقدم قلاع العالم والوضع حينها كان صعباً جداً، وتطلّب مجهودات مضاعفة لإعادة إحياء المواقع الأثرية داخل القلعة، وإعادة تأهيلها لاستقبال الزائرين”.
ورغم غياب المسار السياحي الذي من المُفترض أن يتم تنفيذه من قِبل الجهات المعنية، بوضع لوحات تعريفية لكل موقع من المواقع داخل القلعة، إلى جانب لوحات إشارية، بما يرسم مساراً سياحياً للزوار، إلا أن مدير قلعة حلب يجد نفسه معنياً بنقل كل معلومة يعرفها عن هذه القلعة إلى الزائرين عموماً، والجيل الجديد منهم خصوصاً.
فزوّد الموظفين بالمعلومات الأساسية عن كل موقع ومعلَم أثري من معالم القلعة، بحيث بات بإمكان الموظف المسؤول عن مراقبة موقع من المواقع، الإجابة عن أسئلة الزائرين واستفساراتهم، وتقديم المعلومات الصحيحة لهم، ولو أن ذلك لا يقع في صلب مهامهم كمراقبين.
فيما يرافق “الغريب” وفود الزائرين ويقدم لهم شروحات تفصيلية أكاديمية عن خفايا قلعة حلب برموزها ودلالاتها، وذلك لا يمنعه من أن ينحني ليلتقط أعقاب السجائر المرمية على الأرض، فهو يتعامل مع المكان كبيته فعلاً لا مجازاً، في الوقت الذي يهيئ فيه نفسه للحظة “الصعبة” على حدّ تعبيره
إذ أنه بعد أشهر قليلة سيسلّم مفاتيح القلعة لمن سيأخذ الحمل عنه، ويتقاعد بالقانون، لكنه “لن يتقاعد عن العمل أو عن زيارة القلعة التي باتت جزءاً منه” كما يقول.
أبو عزيز في قاعة العرش .. والدور التوجيهي
أما في قاعة العرش فيستقبلك “محمد مصطفى” الملقب بأبو عزيز، وهو أيضاً من بين الموظفين القدامى في قلعة حلب. تنوّعت مهامه ضمن مواقع عدّة في القلعة وحالياً يتوكل مهام استقبال الزائرين في قاعة العرش.
ويشير “أبو عزيز” إلى الدور التوجيهي الذي يحاول أن يقوم به مع زملائه، لا سيما تجاه الشبّان الصغار الذين يزورون القلعة ربما لأول مرة، فيقول في حديثه لتلفزيون الخبر: ” نحن لا نقوم بمراقبة سير الزيارات فحسب، بل نسهم في تغيير سلوكيات عند كثيرين لا سيما الجيل الجديد من زوار القلعة”.
موضحاً: “ما أن ألحظ على أحدهم أنه يهمّ لكتابة عبارة تذكارية على الحجارة أو الجدران سرعات ما أتوجه إليه وأزوده بمعلومات أثرية وتاريخية عن المكان، فيشعر بقيمة ما يراه ويتراجع عن فعله، ثم أدعوه لكتابة انطباعاته أو الذكرى التي يشاؤها، في دفتر الزائرين.”
يوسف كلاوندي و”الدريرة”
وما إن تصل إلى القصر الملكي في القلعة، حتى تأتيك من الحمام الملكي رائحة فواحة، فيتخيل لك للحظات أن المياه الدافئة تجري فعلاً في الحمام الأثري وتلك النفحة التي شممتها من بعيد هي رائحة صابون الغار، لتكتشف فيما بعد أنها رائحة “الدريرة الحلبية”
يحرص “يوسف كلاوندي” على رشّ “الدريرة”، بين الحجارة وعلى الجدران، محاولاً إشعار الزائر بواقعية تفاصيل المكان، “بأبسط الأدوات وأقل التكاليف”، على حدّ قوله.
بينما يوظّف “كلاوندي” شغفه بالتصوير في التقاط صوراً تذكارية للزوار بشكل احترافي، إذ يحرص على اختيار زوايا التقاط مميزة يدمج فيها ما بين الشمس والظل
ويعطي “يوسف كلاوندي” الملقّب بـ”أبو هاني”، تعليماته اللطيفة للزوار كي يقفون في الأماكن الصحيحة ليلتقط لهم، بجوالاتهم، صوراً تذكارية يحملونها في قلوبهم
فطلبت منه أن يعطيني تعليماته لألتقط له صورة في الزاوية الأحب إلى قلبه، لأنشر صورته إلى جانب حديثه في المادة الصحفية وكانت تلك المرة الأولى التي تنعكس فيها الأدوار على حدّ قوله ويقوم أحدهم بتصويره.
فيما يرافق “أبو هاني” الزوار إلى “الساتورة المالحة” وبيده حجراً صغيراً، ليعرض أمامهم تجربة معرفة عمق البئر الذي تم اكتشافه، فيرمي الحجرة ويعمّ الصمت في المكان، إلى أن تصل الحجرة، جوف الأرض، ويُسمع صوت سقوطها في المياه، فترتسم تعابير الدهشة على وجوه الزوار.
“جريح الوطن” يسترد الروح
وليس بعيداً عن “أبو هاني” ترى جريج الوطن “أحمد حماوي” واقفاً في الطاحونة الهوائية وعينه تراقب من يصعد إلى أعلاها تارة، وتتأمل الإطلالة “البانورامية” لمدينة حلب تارة أخرى.
“حماوي” نجا من الموت بأعجوبة، بعد إصابات بليغة في رأسه وجسمه، ثم تسرّح وحصل على بطاقة “جريح وطن”، وتوظّف في القلعة، بموقعٍ “يردّ له الروح” على حد تعبيره
يقول “حماوي” : “بعد سنوات عصيبة وآلام كثيرة عشتها، حصلت على وظيفة مميزة أستطيع من خلالها تأمل جمال مدينة حلب كل يوم، وأسرد نظري بعيداً، مسترجعاً ذكرياتي في شوارعها ومناطقها، والحقيقة لا أعلم كيف تمضي ساعات الدوام سريعاً دون أن أشعر، فأذهب إلى منزلي وأنتظر الصباح مجدداً لأعود إلى عملي في هذا الموقع المحبب بالنسبة لي”.
البيت الثاني
انتهت الجولة برفقة جنود القلعة لكن قصصهم لم تنتهِ بعد، لا سيما وأنها المرة الأولى حسب ما قال لي أحدهم، التي يُفسح فيها المجال إعلامياً أمام موظفي القلعة، للحديث عمّا يدور في نفوسهم.
ففي الوقت الذي يزور فيه بعضنا، قلعة حلب، غالباً ما يكون جلّ تركيزنا منصبّ على معالمها والتعرف على ما نجهله فيها، أو قد يكون اهتمامنا محدود في حضور فعالية ما تقام على مسرحها، إلا أن ما بين جدران هذه القلعة أناس يعملون على قدمٍ وساق، ليس بانتظار المكافأة الوظيفية، وإنما لتقديم الصورة الأجمل عن “بيتهم الثاني” كما أحبوا أن يسمّوه.
نغم قدسية – تلفزيون الخبر