“بلودان”.. “جنة عدن” سكنها “آدم” وزارها “نوح”!
يخطئ من يعتقد أن منطقة بلودان التابعة لريف دمشق حديثة العهد، وأن الحركة السياحية فيها لا يزيد عمرها عن الخمسين عاماً أو أكثر بقليل.
من يتعمق قليلاً بتاريخ هذه المنطقة سيجد دون أدنى شك عظمة هذا المكان وعمقه في الزمان، كما أنه بشيء من التروي واستنشاق هوائها العليل صيفاً والملفع بالبرودة شتاءً سيعرف أن ثمة رائحة من عبق الماضي وذكريات لا تنتهي.
بلودان هي ببساطة جنة على الأرض، تطل من ارتفاع يزيد عن 1500 متر عن سطح البحر على سهول خضراء شاسعة، تشرب تلك السهول من ينابيعها صيفاً شتاءً دون أن تكف عيون بلودان عن العطاء.
“بلودان جنة وللجنة بينسبوها.. وقصة عدن فيها تورخوها/ بلودان قطعة من الفردوس منشالي.. وكل الناس صاروا يقصدوها/ ضيعتي بأيام عتم الليالي.. جدودنا كسروا الصخر وبنوها/ ومن عصر نوح بعهود الخوالي.. فيها كروم الدوالي بيزرعوها/ ضيعتي دروبها قناطر دوالي.. وخوابي الخمر فيها عتقوها”.
بهذه الأبيات حكى لتلفزيون الخبر الشاعر والباحث “إميل منصور” عن علاقته ببلودان التي سخر حياته من أجل التوثيق لها ولأوابدها الأثرية ولتراثها المحكي عبر مجموعة كتب ودواوين منها: “ذاكرة الكلام المحكي.. دراسة في الزجل”، “بلودان بين الأمس واليوم”، “شعراء من بلودان” وديوان “همسات ولمسات شعرية”.
يقول “منصور”: ثمة اعتقاد كبير بأن جنة عدن كانت في بلودان، وأن آدم أقام في ضواحي دمشق، وبعدما قتل قابيل أخاه هابيل دفنه في مكان قريب من جنة عدن على بعد 25 كم من بلودان، ولا يزال قبره مزاراً لكثير من الحجاج على سفح جبل سوق وادي بردى.
ويُضيف: يُقال أن نوح عليه السلام منذ القديم سكن بلودان وهو أول من غرس فيها كرمة واصطنع منها الخمر، لذلك عندما سكنها السلوقيون 301 ق.م وأشادوا معبد باخوس إله الخمر وسميت “بلوذان” بالذال المعجمة وتعني بلاد الخمر، كما سكنها الآراميون وأطلقوا عليها اسم (بيل دان) في الألف الثاني ق. م ودان تعني “موقع” وبيل “إله البعل” عندهم وعلى هذا تكون موقع معبد الإله بيل.
ويشير “منصور” في أحد كتبه أنه في عام 611 م جعل الفرس بلودان ولاية فارسية وأطلقوا عليها اسم “بلو– دان” أي بلد اللوز، وشهدت المنطقة كوارث طبيعية كالسيول والزلازل والطواعين وأهم هذه الكوارث هو سيل 717 هـ والذي أغرق المنطقة، وزلازل 1173 هـ ناهيك عن الحروب والاضطهادات والغزوات.
وإثر هذه الحوادث التي خلت تخربت كثير من القرى التي كانت توجد في المنطقة مثل كفر عامر وعين حليا وكفر نفاح وعين توت والسفيرة والكبرى وعين الدولة والتكية وغيرها من القرى التي اندثرت كلها وهجرها ساكنوها إلى القرى التي ما تزال عامرة كالزبداني وبلودان.
من الناحية الطبوغرافية تقع بلودان على نهاية جدار جبل “الشقيف” وهو جزء من سلسلة جبال لبنان الشرقية من ناحية الغرب، ويشرف هذا الجبل على سرغايا والزبداني، وترتفع عن سطح البحر 1550 م.
أما أهم المعالم السياحية في بلودان فهي “شجرة مار الياس” وهي شجرة سنديان قديمة ومعمرة وتتبارك بها جميع الطوائف في المنطقة وتدعى “شجرة الخضر”، وتقع أسفل بلودان في منطقة الجرجانية. ويقول فيها الشاعر “إميل منصور”:
“سألت الناس عن هالسندياني.. لبيساع بجوفها سبعة تماني/ جدي قال: قلو جد جدي.. وجدهن قال ما هي عازماني/ إنتي هون مين قلك تشدي.. ومن وين الأساس الأولاني/ قالتلي أنا من دهور عدة.. آدم هون بلوطة رماني/ قلت بالقطع ما شفتي تعدي.. قالتلي مبلا وربي حماني”.
ومن المعالم البلودانية أيضاً “دير يونان” الواقع في أعالي جبل يونان شمال شرقي بلودان بنحو 7 كم على ارتفاع 1832 متر، حيث يوجد أثار لدير قديم ما زالت معالمه واضحة حتى اليوم من أحجار منحوتة وكبيرة وجدران… عُثر فيه على صينية ذهبية يعود تاريخها إلى 2800 قبل الميلاد وهي محفوظة الآن بالمتحف الوطني بدمشق.
وهناك أيضاً “دير مار جريس”، مساحته 40 متر مربع وبني على أنقاضه وبموقعه كنيسة الروم الحالية في وسط بلودان حيث تداعى الدير وانهار في زلزال عام 1557 م ولا تزال أمام الكنيسة الكثير من الشواهد الدالة على الدير القديم، كما انهار في الزلزال ذاته دير النحاس الموجود في منطقة الساقة قرب نبع العرق.
ومن المعالم السياحية أيضاً “مسجد بلودان القديم” الذي تم بناؤه عام 1919 ومساحته 130 متر مربع ويتسع لحوالي 150 مصلي، و”مسجد بلودان الكبير” ومساحته الطابقية ألف متر مربع، بني عام 1955 ورمم عام 1997 ليصبح في أربع طوابق وصالتي أفراح ومصلى للنساء وروضة أطفال ومركز تدريب ومكتبة دينية.
ومن العلامات المميزة في بلودان “مغارة موسى” وهي تجويف حفر بسواعد رجال بلودان وبجهد مضني على مدى أكثر من مئة عام، وكان الغاية من الحفر استخراج رمل “المازار” من أجل البناء وأكثر الأبنية القائمة في بلودان والزبداني استخدمت رملها ومنها فندق بلودان الكبير.
عائلة آل مصطفى كانت المالكة لهذه المغارة، وكان يجتمع أكثر من ثلاثين عامل يومياً لإنتاج ما يعادل مئة متر مكعب من الرمل، يحفر ويعبأ بالسرج وينقل على الدواب إلى ورشات البناء حيث كانت الإضاءة آنذاك الفوانيس التي تعمل على الكيروسين.
وبعد أن ظهر الرمل المحضر عن طريق الكسارات كبديل عن رمل /المازار/ جعل الأمور تتغير فآلت ملكية المغارة لصاحبها الحالي “صفوان مرعي” نسيب آل مصطفى وهو من فكر بتحويل هذا الصرح إلى منشأة سياحية فقام بترخيصها وبدأ بتهيئة المرافق اللازمة لهذه المنشأة واستمر ذلك حوالي الخمس عشرة عاماً.
وشكلت هذه المغارة نموذجاً فريداً لجهد الإنسان الذي يتعامل مع الطبيعة ليصنع معجزة فنية جديرة بالمشاهدة، وافتتحت المغارة في الثاني والعشرين من شهر تموز عام 2006، وسميت هذه المغارة باسم “مغارة موسى” عرفاناً وتقديراً من مالكها “صفوان مرعي” لوالده “موسى” الذي كان مثاله الأعلى في الصبر وتحدي الصعاب.
بديع صنيج- تلفزيون الخبر