“دفعت عنه الفاتورة كاملة”.. سوريات شريكات في الحرب والعوز
في صباح كل يوم ومنذ سنوات طويلة يبدو أن التاريخ كتبها نذراً عليهن، تقف النسوة السوريات مرغمات على الثبات رغم كل الخضّات والهزات، وليس إنشاءً أن يُقال أنهن تصنعن التاريخ أو تشاركن في كتابته، وأن معظمهن تشكلن حالة استثنائية من التأقلم والإبداع قل نظيرها.
وإن كان صعباً أن تبوح السوريات بمصاعب يومهن، حاول تلفزيون الخبر استطلاع آراء بعض النسوة فيما تغير من يومياتهن وتعزيز شراكة المرأة والرجل في ظل الوضع المعيشي المتزايد سوءاً، وعلى طول سوقي الخضار والصاغة ورغم اتساع المسافة والفجوة بين رواد المكانين جال تلفزيون الخبر محاولاً تسجيل شهادات تفتح فيها نسوة قلوبهن وأفواههن بما تخبئه القلوب وتحمله الأيدي!
في سوق البيع المباشر للخضروات والفواكه بحي قنينص باللاذقية يتبضع المئات من الرجال والنساء، تقول أم وسيم، وهي سيدة على أبواب ال65 من عمرها: “تجدين الرجال أكثر من النساء هنا، غالباً، لأن التسوق لم يعد متعة بل أصبح حاجة وأغلب الرجال أصبحوا يتسوقون شخصياً لأسباب اقتصادية بحتة”.
وتتابع “يجد أغلب الرجال أنهم أكفأ في التوفير وربما هذا صحيح، ولا يتنافى مع الشراكة بين الرجل والمرأة، بتُّ أحفظ معظم الوجوه هنا مع أن السوق حديث العهد أنشئ منذ أسابيع قليلة، وعدد من معارفي باتوا يقصدونه مثلي للتوفير”.
“الفرق أنني أتبع هذه السياسة منذ أكتر من 20 عاماً، منذ توفي زوجي ووجدت نفسي أرملة وأماً لثلاث بنات، دخلي لم يكن ممتازاً حينها فكنت ألجأ غالباً للحيل التوفيرية ومنها البحث عن الأسواق الشعبية الأرخص والتي تحقق لي توفيراً جيداً وخيارات واسعة”.
تشير أم وسيم بيدها التي تحمل أكياساً سوداء عديدة باتجاه طاولة بيع وتقول: “السيدة هناك جارتي كانت نادراً ما تقصد السوق الشعبي للتبضع لكنه على ما يبدو كاس على كل الناس”.
أم وسيم ساعدتنا في إقناع جارتها التي رفضت حتى أن يُكتب اسمها لنرمز لها ب “الخالة” لتقول: إن “الوضع المادي لم يعد يسمح لها بتوفير الوقت والجهد والتسوق بكميات كبيرة ونوعيات جيدة من محل الخضروات في الحي الذي تقطنه منذ أكثر من 25 عاماً”.
“لم أعتد على التسوق بيدي كنت أطلب عبر الهاتف ما يلزمني توفيراً للوقت والجهد، اليوم أصبح توفير مبلغ مالي قليل يشكل فرقاً في يومياتي”.
الخالة وجدت الحديث متنفساً لتُجري على ما يبدو ما يمكن توصيفه بالمونولوج الذاتي، سحبت ثلاثة أكياس سوداء وراحت تنتقي حاجياتها على مهل وبعناية لتكمل: “مع أن ابني تزوج ولم يبق لدي سوى ابنتان بالبيت إحداهما تساعد أخاها قليلاً في تأمين الاحتياجات الأساسية إلا أن وضعنا بات أصعب”.
رفاهيات عديدة باتت تستغني عنها النسوة السوريات حيث أجمعت كل من أم وسيم و”الخالة” على أن “أساسيات كثيرة أصلاً كانت تصنف في البيت السوري ككماليات ورفاهيات”.
“اللحم والفروج، السمك، الفواكه، التفاح هو الفاكهة الوحيدة مع البرتقال التي عرفتها بناتي لسنوات طويلة”، تقول أم وسيم، متابعة “اليوم زوجت بناتي الثلاثة، واثنتان منهما تزوجتا في الغربة تقيمان في الإمارات وترسلان لي ولأختهما مبالغ مالية بانتظام، ومع فرق التحويل تشكل فرقاً كبيراً في مستوى حياتنا”.
وعن استمرارها في اتباع سياسات توفيرية رغم تحسن وضعها المادي، تقول أم وسيم، ضاحكة: “اعتدت “التعتير” كما تقول بناتي، للحقيقة لم أغير كثيراً من عاداتي، الاقتصاد هو حفظ للنعمة ولن أبطر وأسرف لأن دخلي أصبح أفضل، بالنهاية هو تعب وجهد بناتي أيضاً”.
تتابع حديثها وهي تتنقل بين طاولات البيع وتسأل عن الأسعار، “كل يوم عم يتغير السعر”، لتضع ما في يدها من أكياس أرضاً وتمسح عرقها قائلة: “تحاول بناتي تعويض تعبي وانا أشكرهن على ذلك طبعاً وأحاول ان أدخر معظم ما يبعثنه لي لأعيد شراء أرض قديمة في القرية بعتها بعد وفاة زوجي بوقت قصير، وأنا أعيش وحيدة يكفيني القليل من أي شيء”.
كثيرات رفضن الحديث معنا، وقالت إحداهن، مؤكدة أن اسمها لن يشكل فرقاً، أنه “لا أهمية للشراكة بين الرجل والمرأة في هذه الظروف وأن من الرفاهية بمكان الحديث عن تفصيل مشابه”، بعد دردشة قصيرة قالت: إنها: “ليست متزوجة أصلاً وأنها في السوق تتبضع لعائلتها وتتشارك يومياتها مع والدها ووالدتها”، مازجة بالقول: “ومنه بشوف يمكن بتفشكل بشي عريس إذا شافني ست بيت شاطرة ومدبرة ينعمى عقلبه ويتزوجني”.
وإن كانت الشراكة مع الرجل في ظل الظرف الاقتصادي المعيشي السيء الذي يعاني منه السوريون جميعاً هي الباب الذي قرعه تلفزيون الخبر للسؤال، قالت ربا، سيدة في ال33 من العمر أم لطفلين، إنها: “لا تتسوق من باب الشراكة مع الرجل بل تتسوق على أمل التوفير ولو بضع مئات من الليرات يوميا تمكنها من تأمين احتياج أساسي آخر”.
وعن الإجراءات الطارئة، كما أسمتها ربا، والتي اتخذتها تماشياً مع صعوبة الوضع المعيشي، تقول: “زوجي يعمل في التعهدات لكنه ليس من التجار الكبار وعمله في الأشهر الاخيرة يتراجع بشكل ملحوظ حتى أن مدخراتنا قاربت على الانتهاء”.
وتتابع “غيرت مجموعة من العادات واستغنيت عن كماليات عديدة، أنواع منظفات تم استبدالها بأخرى ارخص وأقل جودة، أصناف الطعام قلت كمياتها وأنواعها واستبدلت حفاضات طفلي الصغير بأخرى أقل جودة وأرخص سعراً بمبلغ كبير وللحقيقة ليست أقل جودة بكثير.. ماشي حالها”.
ودع تلفزيون الخبر سوق الخضروات والفواكه قاصداً سوق الصاغة، حيث معظم المحال تفتح أبوابها بواجهات فارغة توحي بالإغلاق رغم الوقت الباكر من نهار عمل.
دردشات عدة دارت مع نسوة يجلن في السوق، بعضهن تكتفين بالوقوف أمام واجهات المحال القليلة التي تعرض بضاعتها فيما تدخل قلة منهن من الأبواب.
ريم شابة في أواخر العشرينات تخرجت من جامعة تشرين تحمل إجازة في التجارة والاقتصاد، ضحكت عند سؤالها عن سبب تواجدها في سوق الصاغة رغم ما توحيه واجهات المحال من ركود في حال السوق، “جاية بيع شو جاية أعمل !! أصلاً الصاغة كلها عم تشتري ما عم تبيع بس الغريب إن كتار بدهن يشتروا ما بعرف منين عم يجيبوا مصاري”.
لم تتطلب استجابة ريم للحديث جهداً كبيراً “طالما ما في صورة ما في مشكلة” لتقول: إن “الشراكة مع الرجل بديهية وضرورة، كيف أطالب بحقوق إن لم يكن علي واجبات”، تتساءل ريم، وتكمل “أجد أنه من المعيب بحقي أن أفكر بالموضوع حتى، هو حبيبي وشريكي وزوجي تالياً”.
توصّف ريم الأمر بأن “وقوف الرجل على المجلى أو ترتيبه للسرير أو نشره للغسيل، ليس مساعدة للمرأة بل هو الوضع الطبيعي لممارسة الحياة اليومية، تماماً كما هو الحال فإن مشاركة المرأة للرجل في تفاصيل الحياة تستدعي أن تمد يدها إلى جيبتها وتدفع، وتكرر هي ليست مساعدة للرجل هذا توصيف معيب”
عند خروج ريم من المحل الأول الذي دخلته ارتسمت على وجهها ابتسامة المنتصر قالت: “اشتريت من فترة عدة قطع ادخرت فيها ما صمدناه أنا وزوجي منذ ثلاث سنوات حتى اليوم إضافة لما كنا تلقيناه كهدايا زواج وخطوبة سواء مبالغ مالية أو قطع ذهب، أبيع اليوم لأننا اشرينا منزلاً وعلينا أن نستكمل تجهيزه، احتفظت بقطعة واحدة للذكرى”.
تتابع ريم حديثها عن الفرق بين خططها لحياتها قبل ثلاث سنوات حين كانت عروساً وبين ما حققته منها اليوم “كنت أظن أن الحياة ستكون أسهل نوعاً ما لكن الحمد لله، وضعنا بألف خير عن غيرنا”.
“تزوجنا عن حب وكلانا يعمل وينتج وكان الاتفاق أن ندخر كل ما يأتي من عملي ومن الهدايا ونؤجل شهر العسل وحفل الزفاف لنتمكن من شراء بيت وفرشه كما نحب”.
وتضيف ريم، وهي تقلب في صور جوالها: “الحمد لله اشترينا البيت لكن ما نملكه لن يكون كافياً لنفرشه ونجهزه كما كنا نخطط، كما أن دخلنا لم يكن يسمح لنا بالإنجاب مع الحفاظ على سوية حياتنا ذاتها، جيد أننا تزوجنا بعمر صغير، يمكننا تأجيل الإنجاب لعام أو عامين أيضاً”، وتكمل “ليكون فرجها الله ومنه بكون عشتلي يومين نضاف، أختي تزوجت بعدي بعام وأنجبت فوراً وأظن أنها ندمت لكنها لا تعترف بذلك”.
تقف ريم على زاوية شارع أمام مفترق طرق وتضحك، تودعنا بوجه تعتريه ابتسامة جانبية لتقول: “شفتي كيف! يا رح روح يمين اشتري تياب وكافئ نفسي، يا بروح شمال وبقول لحالي خلي هالكم ألف بينفعوني يمكن يجيبولي مايكرويف”!
أكثر الأجوبة تكراراً على أسئلتنا في سوق الصاغة كان “عم نتفرج ولا حتى الفرجة صارت حرام”، يأتي الجواب بين محال أفرغت واجهاتها وسط أقاويل عن اقتصار الحركة على شراء الذهب وانعدام البيع من قبل الصاغة”.
فيما تقول ام أحمد (ندى) صاحبة ال 45 عاماً الأم لأربعة أولاد : “شراكة من؟؟ هو زوجي وليس شريكي وزواجنا كان ولا يزال قائم على اتفاقات ألا أقصر بواجباتي، وألا يقصر بواجباته بدوره، عليه أن يجد طرقاً مناسبة تحافظ لي على سوية حياة اعتدت عليها، بس يبقى يحمل تسع شهور تعي قليلي شراكة”.
وتتابع حديثها، وهي تنتقل بين محل صاغة وآخر “هو رفض أن أعمل ورفض أن تعمل ابنتنا الكبرى بشهادتها بعد أن تخرجت من معهد السكرتاريا، وهو الرجل الآمر والناهي ومتل ما بيقول المثل لو بدي اصرف من كيسي ما عملتك عريسي”، في حديثها عن أن مدخراتها حق لها ولن تشارك حتى بجزء منها لتحسين الظرف المادي الصعب، مؤكدة أنها “تبحث لدى صاغة تتعامل معهم عن ذهب “كسر” تشتريه للادخار”.
لم يكمل تلفزيون الخبر جولته مستطلعاً آراء النساء بل عرج بطريقه إلى أحد المحلات وسأل الصائغ فيه سؤالاً واحداً، هل تشتري النسوة أم تبعن الذهب؟ فقال: “معظم من كان في السوق بالأسابيع القليلة الماضية كان يبيع قطعاً مفردة وأغلبها جديد تم شراؤها كما هو واضح بهدف الادخار ويتم البيع لتحقيق مكسب مادي بسيط بحكم ارتفاع الأسعار بشكل كبير في فترة قصيرة”.
وقال: “بعض النسوة اليوم يسألن لشراء الذهب وأكثر ما يسألن عنه هو الليرات بقصد الادخار خوفاً من فقدان مالهن لقيمته”، وعن الحالات التي اشترت ذهباً بمبالغ فاقت ال3 مليون ليرة، قال الصائغ “المبلغ ليس كبيراً، كثر من قاموا بذلك ومعظمهن نساء”.
غادرنا سوق الصاغة الذي دخلناه على وقع أخر ما قالته الخالتان في سوق البيع المباشر للخضار والفواكه، كانت “الخالة” عادت من جولة “استطلاعية” لها لتخبرنا بأن “الوقت اقترب للبدء بمونة المكدوس وأنها في العام الماضي استبدلت الجوز بالفستق للتوفير ويبدو أنها هذا العام ستستبدل الزيت بالماء وتكتفي بمخلل البيتنجان لأن “بيدون الزيت صار ب 57 الف” بحسب ما قالت، فيما ودعتنا أم وسيم قائلة، في إشارة لزوجها المتوفي: “ليته بقي شريكي .. دفعت عنه الفاتورة كاملة عشرات السنين!”