الحفر والجُوَر في شوارع سوريا..”تراث محليّ” يتألق شتاء
بطريقة أو بأخرى اختفت صيفاً، ربما اعتاد السوريون وجودها فنسوها وأصبح مرآها أمراً اعتيادياً كعمود الكهرباء في الشارع أو كوجود الطريق بحد ذاته، ومن المحتمل أن يكون العقل الباطن للسوري اختار تجاهلها بشكل تام، فعراقيل طرقاته كثيرة وكافية.
“رومنسية” الشتاء وأمطاره الضائعة
غير أن للشتاء اعتبارات أخرى، فبعد أن فقد “رومنسيته” لدى السوريين، وأثقل رؤوسهم بهموم تأمين المازوت والمونة واحتياجات المدارس، وجعلهم يسيرون مطرقين متفكرين، جاءت هذه الجور التي تماهت مع الطريق صيفاً، لتعلن عن نشاطها الشتوي.
فبضع قطرات تجود بها السماء لا يجب التفريط بها وتأخذ هذه الحفر على عاتقها مسؤولية الاحتفاظ بما تيّسر من مياه وأوساخ عدة أيام، أو حتى يشاء الله.
سنوات وسنوات تعيش هذه الحفر في الطريق ومعظمها لا يبالي بها أحد من الجهات المسؤولة إلا إذا طرأ حدث جلل مثل سقوط أحد الأطفال في جورة كبيرة وإصابته بأذى، أو مبادرة أحد سكان الحي لردمها بطريقة تشوه شكل الشارع، فالمهم أن تحل المشكلة.
مع كل شتاء يحل على السوريين تتفاقم أزمة الحفر التي تتجمع فيها مياه الأمطار إلى جانب ما اختزنته صيفاً من غبار وما تحمله الرياح من أوساخ، فيتكون خليط من الطين والأوحال، كفيل برفع منسوب الغضب والنقمة على فصل الخير، ووعلى المسؤولين الذين “يباغتهم” الشتاء بأمطاره في كل عام، مخلفاً كوارث سببه الأول الاهمال الذي تعاني منه كثير من المناطق والشوارع السورية.
تطوير مهارات القفز
يعتبر أسامة وهو شاب في التاسعة والعشرين أن وجود هذه الحفر ساعده على تطوير مهارات القفز والتركيز على اختيار اللحظة والقفزة المناسبة، في محاولة تجنب تلويث ملابسه وحذاءه قدر الامكان، خاصة في حال مرور سيارة في الشارع، فلمصيبة عندئذ واقعة لا محالة”.
ويتابع ساخراً:” لم يعد شراء ملابس جديدة في كل شتاء ممكناً، وحتى مسحوق الغسيل ليس رخيص الثمن، وبوجود هذه الحفر في كل شارع ودرب، يجعل من الصعب الخروج بذات الملابس مرتين، إلى جانب سرعة اهتراء الأحذية مهما كانت نوعيتها جيدة”.
ولا ينقذ “الكعب العالي” صاحبته من وبال الحفر وأوحالها، وتشرح ولاء ” ارتدي أحذية بكعب عالي شتاءً علني أنجو من وصول الوحل إلى ملابسي، لكنه يزيد احتمالات تعثري بغعل هذه الحفر مختلفة الأشكال والأحجام”.
اليأس والتعامل معها كأمر واقع
تبرز هذه الحفر أمام عيني المواطن كبثور ممتلئة بالقيح، مؤلمة ومزعجة ومن الصعب تجاهلها، تقول ليندا ضاحكة ” سقط ابني أثناء لعبه في إحدى الحفر وأصيب بخدوش وتمزقت ملابسه، لمتُه حينها قائلة : ماكنت شايف الجورة قدامك؟، ثم انتبهت إلى أنني اعتبرت وجودها أمراً واقعاً وعلى ابني التعايش معه، خاصة بعد مناشدات للبلدية لا تنتهي لاصلاح الشارع قبل كل شتاء، لا ردود عليها سوى الوعود”.
تتسلى رغد ابنة الخمس سنوات، بعدّ الحفر من مدرستها إلى منزلها، وتشير باسمة إلى أنها أحصت أكثر من 15 حفرة من الحجم الكبير، دون أن نتمكن من معرفة المقصود بالكبير بالنسبة لها، المهم أنها تتفقدها يومياً وتتطمئن لوجودها في مكانها.
بعض الحفر “الطموحة” تتحول شتاء إلى بحيرات، تتساءل رغد بطفولة ما “إذا كان بإمكانها تربية الأسماك فيها، أو ربما صنع زورق ورقي يبحر من ضفة الشارع إلى الضفة المقابلة”.
حفر دخلت التاريخ وأصبحت نقاط علام
بعض الجور وبمرور الزمن تحولت إلى نقاط علّام، تقول منى 36 عاماً، ” تزوجت منذ عشر سنوات وسكنت في حي عشوائي في دمشق، في بداية الشارع الذي أسكنه حفرة أصبحت نقطة علام للناس والسكان وحتى الزوار، أقول لأحدهم وأنا أدله على بيتي: بتوصل لأول الشارع بتلاقي جورة كبيرة، بتكمل خمسين متر عاليسار، ومثلي يفعل باقي سكان الشارع”.
إلى جانب الحفر الطبيعية الناتجة عن تكسر الزفت أو عدم وجوده أصلاً، تساهم عملية انسداد مصارف المياه في بعض الشوارع، ومنها شوارع رئيسية في تشكيل حفر وبحيرات جديدة، تغوص بها أقدام الناس وحتى سياراتهم كما حصل في الأعوام الأخيرة نتيجة تزايد كمية الأمطار في مختلف المحافظات والمناطق السورية، وتسبب مشاكل في انقطاع الطرقات وحدوث أعطال في شبكات الكهرباء وغيرها.
وينتظر السوريون في كل عام حلاّ “لبعض” مشكلات الشتاء المتراكمة، دون كبير أمل، بالنسبة لكثير من الأحياء والشوراع المنسية في المدن والأرياف، فالمهم أن يصل المازوت، إن وصل، ويبقى الخبز موجوداً و”الجورة بتنتظر لسى كم سنة”، حسب رأي الستيني أبو أحمد الذي يبيع الذرة إلى جانب إحدى الحفر، مستفيداً من وجودها لركن عربته بعيداً عن السيارات التي تهرب منها.
رنا سليمان _ تلفزيون الخبر