الشاعر “دريد أكرم زينو”: “سقوط الرّاء” أول أيام حياتي بعد الموت
يُمعِن الشاعر “دريد أكرم زينو” في ديوانه “سقوط الرّاء” (دار دلمون الجديدة) في خلق توازنات جديدة، تجعل من الشعر تميمةً للخلاص من قسوة الحرب، وما تفرضه من فقدان وعذاب ووحشة، وفي أحيان أخرى يلعب مع الحرب ساخراً منها، أو مواجهاً إياها بسطوة قصيدة، لا تلبث أن تتحول إلى دريئة في مقابل الموت المحتم.
الموعد المحتوم بين نصَّي الحب والحرب لا بدَّ سيُفضي إلى لغة خاصّة، تلتئم فيها القُبَلُ مع الرَّصاص، والأحضان مع الجدران المتهدِّمة، وآهات القلوب المتكسِّرة مع أزيز القذائف المتفجرة، وكأن ثمة استدعاء لكولاج بصري، ينبثق منه المعنى الخالص لسقوط الراء، بحيث تتحول “الحرب” إلى ذريعة أخرى وقوية للحب بأبهى تجلياته.
يقول “دريد” في قصيدته “موعد محتوم”: “ستشرق الشمس بعد قليل.. هيا أسرعي إلى موعدنا.. في شآم الحب.. عندَ آخر تفجير.. على بُعد قذيفتين.. هناك في ذاتِ المكان الذي قنصوا فيه الياسمين.. على يمين الموت.. تجدين مقهانا الذي فيه سنلتقي.. شهيدٌ وشهيدة”.
أن تقتنص الجَمال من يوميات مليئة بالخذلان والسواد والموت، هي وظيفة الشاعر في بحثه عن معنى وجوده، وفي طريقه لكتابة قصيدة قد تتظهَّر نيجاتيفات الحرب عن بياضٍ ما كُنَّا نحسبه بهذه النصاعة.
في هذا السياق يقول “زينو”: “أجمل ما قد يحدث لك في أيام الحرب.. أن تشرق الشمس من حقيبةٍ مدرسية.. من فستان أزرق.. من عيون طفلة تكبر مسرعةً.. في طريقها إلى المدرسة تسابق الشيب في رأسي”
القسوة والغرابة واللا مألوف والطرافة في بعض الأحيان، ثيمةٌ لما يكتبه “دريد”، إذ يُكذِّب نفسه في الحب، ويعاتب الله على حساباته الظالمة، كما أنه لا يكترث بموت ياسمينةٍ واحدة بينما النساء تنجبن ألف شاعر مُعتَّق بالحب، ينذر كل وعوده لعيني حبيبته ولو كانت على هيئة “مدينة” باغتتها الحرب منذ آلاف السنين وما تزال.
“كاذبٌ حين قلت أحبكِ.. والحرب لم ترتو بعد بموتنا.. كاذبٌ كإلهٍ أنزلَ سبعة كتبٍ للحب.. ولم يعترف بأن لمى شفتيك.. كانَ حبرهُ.. عندما قلت أحبكِ.. لم أكن أعنيها حقاً.. كان يجب أن أقول لك: أحيا بك.. لكن ياء النداء غافلها جنون الحرب.. ومضت تسكن شفاه طفلٍ يتيم.. على ناصية الهمزة”.
يقول الشاعر “دريد زينو” في تصريح لتلفزيون الخبر: “كل حرف أو كلمة أو صورة، تحتاج مني حبسَ أنفاسي حدَّ الاختناق لتخرج بأبهى حلّة، وأخاف دوماً كتابة قصيدةٍ طويلة تكتمل بموتي ولا تجد من يقرؤها لكم، لكن في زمن الحرب، القرارات تُتَّخذ مرة واحدة، وبين كل قرار وقرار، الكثير من لحظات الضعف والخوف ومحاولات التملص بأقل الخسائر، يكون حينها الهروب إلى الموت هو أفضل الحلول”.
ويضيف “زينو”: “في هذا الديوان وجدت نفسي أخيراً، أختبئ من نفسي، في الظل بعيداً عن تداعيات الحرب، بين شوارع المدينة، خلف حروفٍ خطَّتها أقدام العابرين على روحي، وكان أول أيام حياتي.. بعد الموت”.
يبوح الشاعر في إحدى قصائده: “هكذا فقط كان الشعراء يصنعون من نُواح البيوت المهجورة.. سفينة نوح للساكنين جُرْحَها.. يَدُقُّون في كل جدارٍ قصيدة قصيرة.. وأخرى طويلة، يمدون بينهما خيطاً من أمل.. يعلِّقون عليه قصاصات ملوّنة.. غداً وبعد أن تنتهي الحرب.. الحرب الطويلة.. الحرب التي سرقت روح المدينة.. سيموت الشعراء.. لكن جرحهم النازف حبراً سيبقى يانعاً.. غضاً.. شهياً.. وسيغوي كل من كان على ظهر السفينة.. بمدِّ أصابعه فيه حتى القاع”.
يقول الناقد أحمد علي هلال في مقدمة الكتاب: “يبتكر الشاعر دريد زينو في ديوانه صياغة درامية لكثافة الحدث الشعري الموازي للحرب، مع نزعة واضحة للتجريب في صيغ حداثية، لا ترتهن للشكل بل تذهب لاختباراتها الجمالية، وتدفقاتها النفسية، لتشي ببلاغتها الداخلية، فالمعادل لصخب الحرب واحتدامها هو الحب في بوحياته المنتزعة، بحيث تتحول الحرب ذاتها إلى استعارة كبرى”.
ويضيف هلال: “يجترح زينو حريةً لنصوصه، ولزمنه وتجربته في تشابكاتها مع السيرة، وبراءة الصوت، واستلهام التجربة، مع نصٍّ موازٍ هو نص الحرب، بمفرداته وسيرورته وقدرته على الإدهاش، بحيث يسعى الشاعر جاهداً للاختلاف عن ذاك النص، صوتاً وصورةً ورؤية، وعمارة شعرية تشبه ذاتها، وتستقرئ داخلها”.
ويوضح الناقد أحمد هلال أن سعي الشاعر للاختلاف شرَّع الأبواب واسعة لأسئلة تتفتح على ماهية القصيدة، وماهية اللغة، كيف تكون “مثوى الكينونة” كما ذهب “مارتن هيدغر”، وفي نقض كل تعريف ناجز للشعر، كطبيعة المغامرة التي تحايث كل تجربة جديدة، عليها يتوقف معنى المغامرة في كونها الشعري، لتؤكد أن أفعال الشعر وحدها هي أفعال الحياة”.
بديع صنيج- تلفزيون الخبر