موسم الزيتون .. ذاكرة التراث السوري بين الماضي والحاضر
بعيونٍ ملأى بخطوط الزمن كمرآةٍ تُرى منها صورُ الماضي، يقول العم أبو حيدر (85عاماً) لتلفزيون الخبر: “كانت الدني أيام خير، وموسم الزيتون فرصة لتجتمع الضيعة كلياتا لتساعد بعضا من دون ما حدا يحتاج يحط أجير واحد، وهيك الكل يستفيد من موسمو بالكامل”.
ويتذكر العم أبو حيدر “الأيام الخوالي” مع استعداد السوريين لموسم الزيتون الحالي، يصمت طويلاً وكأنه يراها أمامه على شاشة إسقاط، ويقول: “نذرت سنوات حياتي كاملةً لرعاية أراضي الزيتون التي شكلت مصدر رزق أساسي، أعالني في تربية وتعليم جميع أولادي”.
طقوس وعادات موسم الزيتون
رحلة السوريين مع جني موسم الزيتون تبدأ في شهر تشرين الأول المقبل وتتأخر عند بعضهم حتى كانون الأول، بعد أن تكون نضجت الثمار وامتلأت بالشكل المطلوب، غير أن استعدادهم له يبدأ قبل أشهر طويلة بتقليم أشجار الزيتون، وحراثة الأراضي وتشذيبها من الأعشاب التي تنمو عليها.
ويشكل موسم الزيتون مصدر رزق رئيسي عند فئة كبيرة من السوريين، حيث يستخدمون جزءاً من الزيتون والزيت كمونة لهم حتى الموسم القادم، ويبيعون الجزء الآخر، بالإضافة إلى قيام بعضهم حتى اليوم بصناعة صابون الزيت وبيعه لما له من فوائد كثيرة للجسم والشعر.
وعن طقوس موسم الزيتون، يتابع العم استرجاع ذكرياته قائلاً: “كانت أم حيدر تستيقظ في الرابعة فجراً لتحضير “الزوادة” التي تتضمن وجبتي الفطور والغداء لإعانتنا على تحمل مشقة نهار كامل في حقول الزيتون، يخفف منها اجتماع أهالي القرية ومساندتهم بعضهم البعض متقاسمين التعب، الرزق واللقمة الطيبة”.
وحافظ ابن العم أبو حيدر (مدرِّس لغة عربية 60 عاماً) قدر الإمكان على طقوس وعادات الموسم التي نشأ عليها، معتبراً أن “التغيرات التي طرأت تعود بسبب تطور الحياة الذي طال كل مناحيها حتى الزراعية”.
“بدلاً من الأقمشة المأخوذة من ثوب قديم أو ستارة مهترئة، أصبح بإمكاننا شراء قطع كبيرة كالحصائر، تأخد شكل جذع الشجرة وتوضع تحتها لجمع ثمار الزيتون بعد إسقاطها”، يقول حيدر.
“وبدلاً من العصي الخشبية التي قد تؤذي الثمار، أصبح هناك عصي بلاستيكية لها رأس مشط يساعد في تمشيط غصن الزيتون حبة تلو الأخرى وبسرعة أكبر”، متابعاً : “ما من حاجة بعد اليوم للدواب بعد شق الطرقات الزراعية وإمكانية وصول الجرارات إليها لنقل الناتج اليومي من أكياس الزيتون”.
ويخشى حيدر على رزق أجداده من بعده في “حقول الزيتون” التي يعتبرها ابنه أحمد (مهندس معماري 30عاماً) مجرد مشقَّة و”هَمّ ما بيجيب حقّو”، بعكس سامر سليمان (مدرس لغة فرنسية 28 عاماً) الذي يأخذ في كل موسم إجازة شهرية بلا راتب لمساعدة أهله في قطف الزيتون الذي يعتبره “متعة خالصة ستشكل له قصة دسمة يرويها لأولاده في المستقبل”.
تطور تقنيات عصر الزيتون
وعن تقنيات عصر الزيتون التي تطورت بدورها واختلفت عن تلك التي استخدمت في الماضي، قال منير حجار (صاحب معصرة زيتون) في ريف صافيتا لتلفزيون الخبر: إن “آلات عصر الزيتون اليوم تختلف عن سابقاتها بأنها أكثر سرعة 4700 دورة في الدقيقة وأعلى نظافة وجودة، فضلاً عن زيادة إنتاجها وقلة هدرها، حيث تستخرج مايزيد عن 98% من زيت حبة الزيتون، لاعتمادها تقنية الطرد المركزي”.
أما عن الطرق التقليدية القديمة التي استخدمت في أربعينيات القرن الماضي وحتى السبعينات منه، يقول حجار: إنها كانت تدعى “العجول” وهي عبارة عن أسطوانتين حجريتين كبيرتين متصلتين بمحور، تطحنان الزيتون لدرجة معينة”، مبيناً أن “هذه الطريقة كانت متعبة وبطيئة فضلاً عن أنها تهدر حوالي 20% من الزيت”.
انتشار زراعة الزيتون في سوريا
انتشرت زراعة الزيتون في مختلف المحافظات السورية خلال العقدين الأخيرين، بعدما كانت مقتصرة في الماضي على شمال غرب سوريا لاسيما في حلب، إدلب، اللاذقية وطرطوس.
ويعود نجاح زراعة الزيتون في سوريا لعدة أسباب، كما قالت المهندسة الزراعية ريتا صادق لتلفزيون الخبر، يأتي في مقدمتها “زراعته البعلية التي لا تحتاج إلى ري أو سقاية وإنما تكتفي بمياه الأمطار”.
وأضافت صادق أن “موقع سوريا على حوض البحر المتوسط يلعب دوراً رئيسياً في غنى وتنوع موسم الزيتون، فضلاً عن الظروف المناخية الملائمة لنمو الشجرة التي تحتاج إلى شتاء بارد وصيف حار، كما هي الحال في البلاد”.
وعن أشهر أنواع الزيتون السوري، تذكر صادق (الخضيري الذي ينتشر بشكل خاص في اللاذقية، طرطوس، حمص وحماه، والدعيبيلي المنتشر في طرطوس واللاذقية).
أما بالنسبة لأخطر أنواع الآفات التي تصيب أشجار الزيتون، أشارت صادق إلى “ذبابة ثمار الزيتون وعين الطاووس” والتي تستوجب مكافحة كيميائية سريعة في حال تجاوزها نسبة 7 إلى 10% من الشجرة.
يذكر أن سوريا احتلت المرتبة السابعة عالمياً بإنتاج زيت الزيتون عام 2018، الذي قدِّر بـ100 ألف طن، بينما كانت تحتل المرتبة الرابعة قبل 2011 بـ200 ألف طن.
ارتباط السوريين المتجذِّر بأراضي الزيتون، ترويه يومياً عواطفهم وقيمهم ومبادئهم، متجاوزاً الهدف المادي منه، حيث شكلت في مخيلتهم -جيلاً بعد جيل- ذاكرة جمعية مليئة بصور التراث وعبق الماضي الجميل، المحفور بكل خط من خطوط وجه ويد العم أبو حيدر.
توفيق بيطار – تلفزيون الخبر