عن أبو قاسم و”نحن الحمير ” .. بقلم رئيس التحرير
كان اسمه “ أبو قاسم “ ، مطعم شعبي في منطقة الليرمون بحلب ، الجميع صار يعرف الليرمون ، كيف لا وقد كانت جبهة مشتعلة ، حي الليرمون محمد عفش ، المجاور لبني زيد خالد الحياني ، هذه هي ثقافة الحرب ، حيث صارت المناطق تعرّف بالمجرمين أحياناً وقطاع الطرق .
دارت أحداث حكاية “ أبو قاسم “ قبل “ الثورة “ بقليل ، حين كان الحلبيون يعيشون الحياة بإيقاع المتعة ، ليس لدي خبرة بالموسيقا ، لكني أعرف أن الإيقاع هو ضابط الفرقة الموسيقية ، وهكذا كانت الحياة في حلب ، المتعة هي التي تحكم وتضبط إيقاع الحياة فيها .
كان “ أبو قاسم “ قصاباً ” ويفاجئك محرك البحث عند البحث عن معنى “ قصاب “ أنه مصطلح فصيح قصَبَ يَقصِب ، قَصْبًا ، فهو قاصبٌ ، وقصَّابٌ ، والمفعول مَقْصوب و قَصَبَ اللَّحْمَ : قَطَّعَهُ ، لكن المحرك نفسه لا يفاجئك حين تعثر أيضا على الشيخ المجاهد العلامة محمدكامل القصاب ،وهو سلفي العقيدة ،واقعي التفكير، مجاهد بقلمه وسنانه الاحتلال الكافر ، بحسب النتيجة ، المجاهد ، جهاد ، سلفية ، احتلال كافر ، مفردات أجبرت الحرب السوريين على اجترارها ، واستعمالها ذرائع للقتل .
يعرف الحلبيون الكثير من أسرار الحياة والخلق ، مدينة عجزت سنوات قحط سبع عن تركيعها ، اللهم إلا الركوع أمام منهل للمياه لتعبئة “ بيدون “ لاستعماله للشرب ، عاش الحلبيون في الواقع على حافة الموت لسنوات ، وما هو السر إلا معرفة الصمود على حافة لسنوات ، وكل ما حولك يدفعك إلى الهاوية .
قدس الله سر الماء الذي يدفعك للركوع ، وسر الحنفيات ، وسر البقبق ، الكلمة البغيضة التي نستعملها بغباء لنهرب من تشبيه ما ، بعدما دفعنا كل ما يمكن دفعه لنقتل ذلك “ البقبق “ ، وبما أن النصر صبر ساعة ، وفق ما يؤمن به المؤمنون ، فإن ساعة باب الفرج سكتت لسنوات ، تراقب المؤمنين قانتين يسبحون بحمد الرصاص المحيط بها .
كان “ أبو قاسم “ ، على تواضعه ، من اشهر المحلات التي تقدم “ المشاوي “ في حلب على مدى عامين ، المدينة التي لا ينافس محبة وشهرة صباح فخري ونادي الاتحاد فيها ، إلا محلات الأكل “ المرتبة “ ، وفي كل مرة نقرر ، أنا و” الشلة “ الذهاب لزيارة روض “ أبو قاسم “ ، والتمتع بما لذ وطاب ، من “ مشاو “ تعجعج رائحتها ملء المنطقة ، كان يستجد معنا ظرف ما يمنعنا ، إلى أن نجحنا في أحد الأيام ، وتوجهنا مباركين ببطون خاوية وأحلام ، حتى وصلنا إلى مطعم “ أبو قاسم “ .
كانت “ الدرابية “ مغلقة ، والشمع الأحمر يشعشع شعشعة فوق القفل المصمت ، سألنا الجيران عن سبب إغلاق ال” مطعم “ بالشمع الأحمر ، فتهرب من وجد هناك من الإجابة بكلمة “ ما منعرف “ ، المنطقة بالأصل هي منطقة معامل ، والمحلات هناك قليلة ، والرواد كانوا يقصدون المكان بالذات ، “ شمطت “ هاتفي ، وكنت حينها رئيساُ لتحرير موقع عكس السير ، واتصلت بالدائرة الصحية في بلدية حلب .
“ كان عم بيبيع لحم جحيش والله “ جاء الصوت من الطرف الاخر ، أكدت عليه “ جحيش جحيش ؟؟“ وكأن الأمر سيعني شيئاً ، ولكنها الصدمة، هي من سلبتني القدرة على الإدراك ، “ والله يا استاذ لقينا عندو حمار مذبوح “ ، يمكن لأي منكم أن يدفع نصف عمره ، ليشاهد الدهشة ونظرة “ الإزبهلال “ على وجوه أصدقائي ، وخاصة ، من كانوا يتغنون على طول الطريق إلى “ مطعم “ أبو قاسم ، بـ “ لذة اللحمة “ والمشاوي ، ويتغون بـ “ الدهنة المشرشرة “ ، نعم “ لحم جحيش “ بالحلبي ، وتعني “ لحم جحاش “ بالعادي .
“ طش الخبر “ ، وملأت حكاية أبو قاسم الأرجاء ، وسجن “ طاهي الحمير “ لمدة ، قبل أن “ يظبط أمورو” ويخرج ليعاود فتح المطعم ، بينما الناس المصدومة بـ “ طعمة “ الحمير “ تحت أضراسها “ لا زالت غير مصدقة أنها كان تستمتع بلحم الحمير وتأكله على مدى أكثر من عام ، الطعمة كانت رائعة ، بحسب من عاشها طبعا ،لكن حقيقة الأمر هي كانت المشكلة .
الذكريات هي بيوتاتنا السابقة ، نهرع إليها كلما ضربنا الحاضر بقسوة ، أشاكس اللاوعي في داخلي أحياناً ، وأتساءل ، هل السنوات السبع الماضية التي مرت علينا هي حاضر ؟ أم ذكريات ؟ ، هل حجي مارع ، والبغل ، وكتائب المقنطز ابن عنفرة ، هم مجرد ذكريات مرت ؟، أم يعيشون بيننا اليوم؟ وهل يعجبنا ان نكذب على أنفسنا احيانا؟
يحتفي الحلبيون اليوم بالنصر ، والنصر مثل الله ، مفهوم نسبي ، من منا لم يبك وهو يتابع أخبار تحرير حلب قبل عام ، من منا لم يبك اليوم وهو يستذكر تفاصيل ما جرى؟ ، كل ما يدفع للبكاء فرحاً هو ما جرى قبل عام ، اليوم ، بعد عام ، أين نحن ؟
يعيش “ ابو قاسم “ اليوم في مكان ما ، ربما صار “ ثائراً “ وربما صار عضوا في “ اللجان الشعبية “ ، وربما مات ، لكنه على الأرجح فتح مطعم في مكان ما باسم اخر ، ولحم الحمير ، كما اتضح على مدار أكثر من عام ، مغر .
عبد الله عبد الوهاب – رئيس التحرير في تلفزيون الخبر