79 عاماً على قصف الاحتلال الفرنسي لدمشق.. تغيرت السنوات ولم يتغير العدوان
تفاجأ الدمشقيون في ظُهر 29 أيار 1945 بأصوات مدافع الاحتلال الفرنسي تدك العاصمة من كل حدب وصوب، بهدف قمع الاحتجاجات الرافضة للاحتلال.
خلفية تاريخية
انقسمت فرنسا في نهايات الحرب العالمية الثانية إلى مجموعتين، الأولى موالية لألمانيا النازية “حكومة فيشي”، والثانية موالية لحكومة “فرنسا الحرة” بزعامة الجنرال شارل ديغول.
وكانت سوريا حينها تخضع لاحتلال “حكومة فيشي” الذي هُزم على يد “الديغوليين” بدعم بريطاني 1941، وتم تعيين الجنرال كاترو مفوضاً سامياً لحكومة “فرنسا الحرة” في سوريا ولبنان عام 1942.
وأذاع الجنرال كاترو باسم الجنرال ديغول ما عُرف لاحقاً ب”وثيقة كاترو” التي وعد فيها سوريا ولبنان بالاستقلال وحق تقرير المصير، الأمر الذي لاقى صدى إيجابي لدى الشعبين، لكن بعد انتصار “الحلفاء” في الحرب حاولت فرنسا الانسحاب من وعودها والمماطلة بتسليم الحق لأصحابه.
مُقدمات العدوان
مع دخول شهر أيار 1945 عمت المظاهرات المدن السورية واللبنانية، وعقد اجتماع في 18 أيار بين مندوب فرنسا في سوريا ولبنان الجنرال بينيه ووزيري خارجية البلدين لتخفيف حدة التوتر.
وجاءت المطالب الفرنسية في الاجتماع على شكل إنذارات تتنافى مع وعدها بمنح الاستقلال للشعبين، وقامت بإنزال عسكري في بيروت ما دفع حكومتي سوريا ولبنان وقطع المفاوضات وتجهيز الساحات للتظاهر الشعبي الرافض للاحتلال.
وتوافد مئات المتطوعين السوريين لحمل السلاح دفاعاً عن البلاد من أي ردة فعل فرنسية، وكذلك فعل العديد من النواب اللذين ارتدوا اللباس العسكري وصاروا يتدربون على القتال في ثكنة الشرطة الموجودة بقلعة دمشق، إضافة لانسحاب عدد كبير من السوريين المنضمين للعسكر الفرنسي والتحاقهم بالقوى الوطنية.
رد فعل الاحتلال
في 25 أيار أذاع الجنرال روجيه بياناً عسكرياً لقوات الاحتلال في سوريا يدعوهم إلى “إبادة جميع عناصر الشغب التي تريد إخراج فرنسا من سوريا، واحتلال جميع دوائر الحكومة ومؤسساتها ومنشآتها ومنع اتصالها مع العالم، ووضع البلاد تحت الحكم العسكري وفرض الأحكام العرفية”.
وقررت حكومة الاحتلال اتخاذ يوم 29 أيار لتنفيذ عدوانها على دمشق خصوصاً، وأن جلسة لمجلس النواب سيحضرها جميع الوزراء كانت ستعقد عند السادسة مساءً لتأكيد رفض الاحتلال، ما اعتبرته فرنسا فرصة لقتل جميع من في البرلمان وإدخال البلاد بفراغ دستوري يسمح للاحتلال بإيصال أعوانه للسطلة.
ساعات قبل العدوان
في تمام الثالثة من بعد ظهر 29 أيار وجه الجنرال روجيه إنذاراً إلى رئيس مجلس النواب سعدلله الجابري يطالبه بعدم عقد جلسة المجلس، ومطالبة حامية البرلمان بتحية العلم الفرنسي عند إنزاله في المساء عن دار أركان الحرب الفرنسية المواجهة للمجلس، وذلك بعد محاصرة مبنيي البرلمان والحكومة.
ولعدم اكتمال النصاب ألغى “الجابري” الجلسة، ودعا لاجتماع سرية للحكومة بمنزل أحد الوزراء، وخلال ذلك اندفع الدمشقيون للشوارع لفك الحصار عن المباني المحاصرة ما جعلهم في مواجهة مباشرة مع قوات الاحتلال.
ورفضت حامية البرلمان تأدية التحية للفرنسيين بأمر من “الجابري” الأمر الذي اتخذته قوات الاحتلال كذريعة لتنفيذ عدوانها باستخدام جنود سنغال مزودين بأسلحة فتاكة.
العدوان
في تمام الساعة 6:50 فتح جنود الحامية الفرنسية في شارع النصر النار على المواطنين الذين خرجوا في مظاهرات احتجاجية، وفي نفس اللحظة دوى صوت القنابل وطلقات الرصاص وهي تنطلق من دار الأركان الفرنسية تجاه البرلمان.
وشاركت جميع قوات الاحتلال في دمشق بإطلاق الرصاص والقنابل، فيما تقدمت المدرعات الفرنسية لتوجه نيرانها باتجاه مبنى البرلمان بكامل قوتها، بينما سطرت حامية البرلمان أروع ملامح الصمود ضد قوات الاحتلال بأسلحة متواضعة.
وبعد نفاذ ذخيرة الحامية، عندها اقتحمت القوات الفرنسية مبنى البرلمان لتنفذ أبشع جرائمها الوحشية، بتمزيق أجساد الناجين بالسواطير والتمثيل بجثامين من استشهدوا، والذي بلغ عددهم 28 مع نجاة 4 عناصر قاموا برواية الحادثة لاحقاً.
وشوهدت بعض الجثامين بلا آذان، وبعضها مقطعة الأيدي، وبعضها مفقودة العينين، كما شوهدت آثار السواطير على أجسامهم بشكل تقشعر له الأبدان.
وبالتوازي مع هذه الجرائم شنت مدفعية الاحتلال هجوماً على قلعة دمشق لوجود قوى الأمن الداخلي فيها ،ولم يتوقف القصف حتى طال الدمار أجزاء واسعة من القلعة وقيل أن عدد الشهداء وصل ل300 شهيداً.
واستمر العدوان لمدة 3 أيام احترقت خلالها أحياء واسعة من دمشق، ونزح الأهالي بشكل كبير لخارج العاصمة، وسط مقاومة أهلية كبيرة امتدت لتصل كافة أنحاء سوريا لاسيما حماة ودير الزور وحلب واللاذقية.
وصرح رئيس مجلس الوزراء آنذاك خلال مؤتمر صحفي أن مديرية صحة دمشق أصدرت تقريراً رسمياً، جاء فيه “عدد الشهداء من المدنيين بدمشق بلغ 600 والجرحى والمشوهين بلغوا 500، والذين أصيبوا بجراح يمكن معالجتها بلغوا ألف، وهناك 120 شخصاً من الدرك بحكم المفقودين، أما الخسائر المادية فهي جسيمة جداً”.
نتائج العدوان
بعد وساطة بريطانية أدت لوقف الجرائم الفرنسية في سوريا، سلمت فرنسا خلال شهر تموز 1945 جميع الثكنات العسكرية إلى الحكومة السورية، حيث رفع العلم السوري عليها وأصبح الجيش كله تابعاً للحكم الوطني.
وتم الاتفاق بين فرنسا وسوريا في 27 تموز 1945 على نقل مسؤولية الإشراف على القطعات العسكرية الخاصة إلى الحكومة السورية في الأول من آب 1945، الذي كان تاريخ ميلاد الجيش الوطني السوري وأصبح عيداً للجيش.
وعرضت قضية جلاء القوات الأجنبية عن سوريا على الأمم المتحدة بتأييد من الاتحاد السوفييتي، فاضطرت فرنسا وبريطانيا للتعهد بسحب قواتهما بالتدريج، وتم ذلك في الساعة 10 من يوم 15نيسان عام 1946 واحتفلت سوريا بالاستقلال بتاريخ 17 نيسان.
وبعد مرور العقود لم ينتهي الحلم الفرنسي بإعادة احتلال سوريا، حيث وقفت باريس ومنذ بداية الحرب على البلاد في 2011 لجانب قوى العدوان وساهمت بتزويد الجماعات الإرهابية بشتى أنواع الدعم.
ونشطت فرنسا في أروقت الأمم المتحدة بقصد تجييش الرأي العام الدولي ضد سوريا وكيل اتهامات باطلة تستهدف الدولة السورية والجيش العربي السوري تتعلق بقضايا السلاح الكيميائي، لكن نتيجة صمود الجيش والشعب والدولة ذهبت أحلام المحتل الفرنسي أدراج الرياح.
يذكر أنه تم تحديد يوم 29 أيار كمناسبة وطنية وعيداً لقوى الأمن الداخلي تخليداً لذكرى مجزرة حامية البرلمان، وكل من قاوم خلال العدوان الفرنسي على دمشق.
جعفر مشهدية-تلفزيون الخبر- ارشيف