“البربارة” من طقس ديني إلى مناسبة اجتماعية لأهل الساحل السوري
تحيي قرى الساحل السوري عيد “البربارة” بطقوس مختلفة نوعاً ما عمّا هو متعارف عليه، ففي صباح الـ16 من كانون الأول، تزور النيران المنازل لتطهو عليها الأمهات أكلة “الهريسة” أو “القمحية” والمكوّنة من حنطة مقشورة ودجاج بلدي ولابد من أن تقلّى بالسمن البلدي كإضافة استراتيجية، والسر في نجاح الطبخة كما قالت السيدة “أم محمد” لتلفزيون الخبر يكمن بـ “خفقها بقوّة”.
وأضافت أم محمد (55 عاماً) من قرية تعنيتا، بريف بانياس، لتلفزيون الخبر: “العائلات المقتدرة من زمان كانت تعتمد بهالمناسبة على الحبش، وبلّشت هالعادة تقل تدريجياً واستبدلت بالفروج العادي، مع تعثّر الظرف الاقتصادي والأزمة المعيشيّة اللي عم يمر فيها السوريين، واليوم وصلنا لمرحلة استبدلنا السمن البلدي بالزبدة”.
وتابعت الست “أم محمد”: “يتم صنع الهريسة من خلال سلق الفروج بالماء مع البصل وورق الغار في الدست، حسب الكمية المطلوبة، ويُغلى على الحطب غالباً، لتضيف القمح المدقوق (المقشور) والملح، ويتم تقليتها بالسمن البلدي، وتترك على الجمر لتتهبّل، قبل أن تقوم بعملية الخفق لتتوزّع وتتجانس المحتويات”.
ويرافق طقس “الهريسة” الذي مايزال حاضراً في غالبيّة مناطق الساحل السوري، طقساً يبدو أكثر جماليّة، وهو التباري بإشعال النيران مع باقي الحارات، والغلبة لمن تبقى ناره مشتعلة لفترة أطول، “لكن الغلبة تكون دائماً للسماء” يقول العم “أبو محمد”، في إشارة إلى الأمطار الغزيرة التي تتزامن وهذه المناسبة غالباً.
وأضاف أبو محمد (60 عاماً)، في حديثه لتلفزيون الخبر: “طقس إشعال النيران بنباتات البلان والشفشاف الشوكيّة البريّة والتي كنّا نقوم بجمعها وتحضيرها قبل أسابيع من المناسبة، فقدناه إلى حد كبير خلال السنوات الأخيرة، حقيقةً لم أشهده منذ أكثر من 10 سنوات في قريتي، اهتمامات أطفال هالجيل تغيّرت”.
وتابع “أبو محمد”: “من الطقوس الجميلة التي لا تزال حاضرة في مخيلتي بمناسبة البربارة، وأحن إليها حقيقةً، عندما كنت طفلاً ومع حلول المساء كنّا نقوم بتزيين محيط الأسطح بالصفوة (رماد الحطب)، مع قليل من المازوت، لتبقى مشتعلة حتّى ساعات متأخرة من الليل”.
ليختم العم حديثه بالقول: “البربارة عندما كنت شاباً كانت أكثر من طقس سنوي، وإنما فرصة لحل الخلافات بين المتخاصمين في القرية كي تعم البركة والخير، وأتذكّر جيداً عندما أخبرني والدي بأنهم كانوا يعتبرون البربارة طريقة لحساب أعمارهم فيقال فلان عمره 20 بربارة مثلاً، كونها تتم مرة واحدة في العام”.
وارتبط بهذه المناسبة كثير من الأمثال الشعبيّة، منها “بعيد البربارة بتطلع المي من قدوح الفارة (إشارة إلى غزارة المطر)، وإن لم ترو الأرض في عيد البربارة.. فرد قمحك إلى الكوارة أي (حافظة القمح).
و “بعد عيد البربارة، بيزيد النهار نطّة فارة” (المعروف أن أقصر نهارات العام هي في النصف الأول من كانون الأول الذي يقع عيد البربارة فيه)، ويعتقد الناس بالملاحظة أن النهار يزيد قليلاً ابتداءً من تاريخ 16 كانون الأول.
إضافةً إلى الأمثال الشعبية، هناك الكثير من الأغاني التي تناقلتها الصبايا احتفاءً بالقديسة بربارة وارتبطت بهذه المناسبة، منها “هاشلة بربارة مع بنات الحارة” التي غنّت إحدى نسخها الفنانة الراحلة صباح، وأغنية “كان يا ما كان.. في قديم الزمان.. بنت اسمها بربارة.. مليانة إيمان”.
يُذكر أن نسب عيد البربارة يعود إلى القديسة بربارة، التي عاشت في القرن الثالث الميلادي، ورفضت الوثنية، واختارت المسيحية، بالرغم من أن والدها كان متعصباً لوثنيته، وأعلنت موقفها جهاراً، ما أدّى بها إلى الجلد ثمّ الحبس، وأخيراً القتل على يد والدها عبر فأس قطع به رأسها، بحسب موقع “بطريكية أنطاكيا وسائر المشرق”.
تجدر الإشارة إلى أن عيد القديسة “بربارة” عيد مسيحي لكنه تحوّل إلى عيد محلي في الساحل السوري يحتفلون فيه من مختلف الأديان، وكذلك مختلف الطوائف المسيحية مع بعض الاختلافات في الأيام، فهناك من يحتفل به في 4 كانون الأول وآخرين في 16 أو 17 لذات الشهر من كل عام.
واعتماد أكلة “الهريسة” على القمح المسلوق يرمز في الموروث الشعبي السوري إلى الابتهاج والفرح بانتصار القديسة، حيث تروي الحكايات أنها استطاعت الهرب من والدها الطاغية وركضت بين حقول القمح التي نمت سريعاً بأعجوبة لتحجبها عن عيون جنوده الذين كانوا يلاحقونها للقبض عليها، وللساهرين في ليلة البربارة حصتهم من الحلوى أيضاً.
وتأتي قدسية هذه المناسبة كونها تؤكّد فكرة التضحية من أجل المعتقد، الأهل، والمجتمع،
وتتعمّق لدى كل جيل فكرة الحب المتبادل مع الآخرين، ولا تقتصر مناسبة “البربارة” عند كثير من العائلات الساحلية على يوم واحد في السنة، وإنما يتم طبخها لأكثر من مرة بسبب فوائدها ودلالاتها الروحية، إلّا أنها “مو طيبة غير بترمها”، تقول الست “أم محمد” لتلفزيون الخبر.
ومع اشتداد الأزمة الاقتصادية التي تمر بها البلاد، هذا العام، استبدل الأهالي الدست بطنجرة متوسطة الحجم تماشياً مع الظروف، وازداد اعتماد الناس على الحطب، في سبيل الحفاظ على الطقوس التي يرغبون بعودتها، كما كانت قبل عشرات السنين، لقلّة توفّر الغاز لغلي القهوة، فما بالك لطبخة تحتاج الطهي لساعات.
شعبان شاميه – تلفزيون الخبر – أرشيف