عيد القديسة “بربارة”.. بين طقوسه الموروثة الجميلة وحكايتها الحزينة
قمح مسلوق مزيّن باللوز والسكر واليانسون والقرفة، وحفلات وأناشيد متنوعة، بهذه الطقوس يحيي المسيحيون في سوريا، لبنان، الأردن، وفلسطين عيد “البربارة”، نسبةً إلى القديسة “بربارة” التي دفعت حياتها ثمناً لإيمانها، ويحتفظ الأطفال بأقنعتهم وأزياءهم التنكرية لهذا اليوم، في طقس يعتبر من أقدم التقاليد في الكنائس المسيحية.
ويصادف عند الطوائف الغربية كالموارنة والكاثوليك في 4 كانون الأول، في حين تحتفل به الطوائف الشرقية مثل الروم الأرثوذكس في 12 منه، كما يحتفل به الأقباط في 8 شهر “كيهك”، وهو الشهر الرابع في السنة القبطية، ويصادف في كانون الأول.
من هي بربارة .. وما حكايتها ؟
يسود خلاف حول تاريخية بربارة، حيث لا توجد مراجع دقيقة توثّق حياتها، ويميل البعض للاعتقاد أنّ حكايتها، في جزء من تفاصيلها، تخلط الواقع بالأسطورة، ويعتقد أن بربارة عاشت في القرن الثالث للميلاد، لكن الاحتفال بذكرها لم يبدأ إلّا في القرن السابع.
كذلك لا يوجد اتفاق حول مكان ولادتها، حيث تفيد بعض الحكايات الشعبيّة أنها ولدت في مدينة “بعلبك” الواقعة حالياً في لبنان، في حين يرى آخرون أنها ولدت في مدينة “نيقوميديا” الواقعة في تركيا حالياً.
ويعتقد أهالي قرية “عامود” الفلسطينية في الضفة الغربية، أن القديسة بربارة مدفونة في دير من أديرة القرية، حيث يضيئون لها الشموع كل عام.
ورغم الخلاف على دقّة مكان وتاريخ الولادة، تجمع كافة الروايات على خطوط عريضة موحّدة لقصة بربارة، باتت حكاية تنتقل بالتواتر، وترويها الجدّات والأمهات لأحفادهنّ قبل النوم في بلاد الشام.
تقول القصة، إن بربارة كانت ابنة نبيل روماني، عرف بثرائه، وبتعصّبه لوثنيته، ولأنها كانت على قدر عالٍ من الجمال، خاف والدها عليها من العيون، فبنى لها برجاً عالياً، حبسها فيه معظم طفولتها وشبابها، وكان الخدم والمعلّمون يزورونها لتزويدها بالطعام وتدريسها.
من برجها المسوّر العالي، المحاط بالحرس، اكتسبت بربارة عادة تأمّل الطبيعة، ودورة الفصول، وحركة الشمس والقمر، فخلصت إلى قناعة ذاتية بأنّ الخالق لا يمكن أن يكون من الأصنام التي يعبدها أهلها.
ولأنّ أحد مدرّسيها كان مسيحياً، عرفها على الأنجيل، وقررت أن تنال المعمودية بالسرّ، وتكريس حياتها للمسيح، فصارت ترفض عروض الزواج.
رفض بربارة الزواج، أحرج والدها أمام نبلاء قومه، فحاول أن يضغط عليها، وبدأ يشكك بتأثير المعتقدات المسيحية عليها، وعندما صارحته بإيمانها، حاول قتلها، فهربت منه إلى الحقول والبراري.
وللاختفاء عن عيون والدها وحراسه، صارت بربارة تلف نفسها بالملابس الممزقة، وتلوّن وجهها، واحتمت بين سنابل القمح الناضجة.
لكنّ أحد الرعاة تعرّف إليها، بسبب يديها الجميلتين، وعينيها، كما تقول الأغنية الفلكلورية: “هاشلة بربارة مع بنات الحارة، عرفتها من عينيها ومن لمسة إيديها، ومن هاك الأسوارة”، وتقول نسخ أخرى من الحكاية، أن بربارة حين هربت من والدها، انشقت صخرة كبيرة، واختبأت بداخلها.
في النهاية، يلقي والدها القبض عليها، وبعد جولات تعذيب، لم تتخلّ بربارة عن إيمانها، فلجأ إلى الحاكم، وأمر بقطع رأسها، وطلب والدها تنفيذ الحكم بنفسه، واستعدّ لقطع رأس ابنته، عندها هبّت لنجدتها شابة أخرى، تدعى يوليانة، تأثرت بها، وأعلنت إيمانها بالمسيح، فقتلت الاثنتان معاً، واعتبرتا شهيدتين من شهداء الكنيسة الأولى.
وبحسب موقع “أليتيا” المختص بالشؤون المسيحية، تعدّ قصة بربارة، سجينة البرج العالي، من النسخ الأولى لقصّة “رابونزل” الشهيرة، والتي كتبها مؤلفا الأقاصيص الشعبية الألمانيان، الأخوان غريم.
أمّا علاقة بربارة بالقمح، فمرتبطة بأساطير الحصاد وطقوس العبادة التي أحاطت بها منذ الأزمنة القديمة، وعلى اختلاف الشعوب والأساطير، تجد المصادر التاريخية أقاصيص عن إله القمح الذي يُعذّب ويقتل، ليعود وينبت في موسم جديد.
“بربارة” والطقوس الموروثة
في ليلة البربارة، يتحلّق الأطفال ضمن مجموعات، ويجوبون طرقات القرى اللبنانية والسورية، وغيرها من دول بلاد الشام، متنقلين بين البيوت، لملء أكياسهم بالحلوى والمكسرات.
ويطرقون باباً بعد باب وهم يهتفون أهازيج شعبية خاصة بالمناسبة، ومنها “أرغيلة فوق أرغيلة صاحبة البيت زنغيلة” و “شيحة فوق شيحة صاحبة البيت منيحة”، و “هاشلة بربارة مع بنات الحارة”.
وتتوارث العائلات هذه الأهازيج من جيل إلى جيل، وقد أدتها الفنانة الراحلة صباح في أغنية فلكلورية بعنوان “هاشلة بربارة”، اشتهرت في الستينيات، وما زالت تذاع حتى الآن، وتعني كلمة “هاشلة”، هاربة، في اللهجات الشامية، وذلك نسبةً إلى قصة هروب القديسة بربارة من والدها.
وبهذه المناسبة تقوم العائلات بسلق القمح، وتزيّنه بالزبيب واللوز والجوز والسكر والقرفة، كما تقدّم القطايف بالقشطة، إلى جانب حلوى المعكرون والعوّامات والمشبّك للزوّار.
وقبل انتشار الأزياء التنكرية والتي درجت مؤخراً، كان أهل القرى يلوّنون وجوههم، ويرتدون ملابساً ممزقة وخرقاً بالية، للقيام بجولات ليلية وتبادل الحلوى، بعد أداء طقوس القداس إكراماً لبربارة.
وهناك ملامح شبه كثيرة بين عيد البربارة وهالوين، كما أنّه يشبه عيد القرقيعان أو الكريكشون الذي يُحتفل به في عدد من دول الخليج في منتصف شهر شعبان، بحسب التقويم الهجري.
ويقول مختصين في دارسة الأساطير، إن “هذه الطقوس الفلكلورية المتشابهة بين الأديان والبلدان والحضارات، ما هي إلا امتداد لاحتفالات وثنيّة بمواسم الحصاد وبدورة القمر، وبشعائر ارتداء الأقنعة للتماهي مع أرواح الأجداد والآلهة في الحضارات القديمة”.
تجدر الإشارة إلى أنّ عيد القديسة “بربارة” تحوّل في الساحل السوري إلى عيد محلي يحتفلون فيه من مختلف الأديان، مع بعض الاختلافات في الأيام، ففي صباح 16 كانون الأول من كل عام، تزور النيران منازل معظم القرى لتطهو عليها الأمهات أكلة “الهريسة” أو “القمحية” تخليداً لذكرى “بربارة”.
وتتكون “القمحية أو الهريسة” من حنطة مقشورة وديك حبش مقلّاة بالسمن البلدي، قبل أن تضطر الظروف الاقتصادية التي عصفت بالسوريين خلال السنوات الأخيرة، لاستبدال ديك الحبش بالفروج العادي، والسمن البلدي بالزيت أو الزبدة، هذا لمن استطاع إليهم سبيلاً، كما قالت الخالة “أم محمد” من قرى ريف بانياس، لتلفزيون الخبر، في وقتٍ سابق.
شعبان شاميه – تلفزيون الخبر