ماذا تعرف عن “الجمرة الخبيثة” أقدم الأوبئة المسجّلة في التاريخ؟
أكّدت السلطات الكرواتية، قبل أيام، إصابة عدد من المواشي بالجمرة الخبيثة، مشيرةً إلى العثور على رؤوس ماشية نافقة كانت موجودة في إحدى الحدائق الطبيعية جنوب شرق العاصمة زغرب، فما هو هذا المرض؟ مدى خطورته؟ وهل تفشّى في سوريا سابقاً؟
بهذا الخصوص، قال أستاذ الأحياء الدقيقة في كلية الطب في جامعة طرطوس، الدكتور فهيم عبد العزيز، لتلفزيون الخبر، أن: “عصيات الجمرة معروفة بأمراضها منذ القدم (قبل الميلاد)، ومعنى أنثراكس Anthrax في الاسم مشتق من اليونانية أي (الفحم)، لذلك سميت بالجمرة أو الحمى الفحمية”.
وتابع “عبدالعزيز”: “المرض تسممي وبائي سريع الانتشار، من الأمراض المشتركة بين الإنسان والحيوان، يؤدّي إلى موت سريع أو مفاجئ، كما أن العصيات وبذيراتها متواجدة في كل مكان وتعيش في المناطق الملوّثة لفترات طويلة، اكتشفت من قبل العالم والطبيب الألماني روبرت كوخ بين 1875- 1877”.
وأوضح الاختصاصي أن: “عصيات الجمرة تمتلك محفظة وهي قادرة على التبوّغ (متبذرة)، وبذلك تصبح مقاومة لظروف الوسط المحيط، مقاومة للحرارة الشديدة والبرودة وأغلب المطهرات”.
وبيّن “عبدالعزيز” أن: “البوغة تبقى محتفظة بحيويتها لسنوات طويلة قد تصل لـ10 سنوات (في التربة مثلاً أو في المنتجات الملوّثة أو المنتجات الحيوانية كالجلود، صوف، فراء، شعر، أحشاء…)”.
وأشار أستاذ علم الأحياء الدقيقة إلى أن: “البوغة تتلف في الأوتوكلاف خلال زمن من 5-15 دقيقة، وتقتل بالفورمالين 10% على درجة 40 مئوية خلال 15 دقيقة”.
وعن طرق الانتقال والعدوى، أجاب “عبدالعزيز”: “تطرح عصيات الجمرة مع روث وإفرازات الحيوانات المصابة (المريضة والنافقة)، وتلوّث التربة، المراعي، المياه، وغيرها من الأغذية والمنتجات الحيوانية، ويكثر تواجدها في المنتجات الحيوانية (جلود، فراء، صوف، شعر، مخلفات أخرى)”.
وأضاف الطبيب الاختصاصي: “العدوى تصيب بشكلٍ أساسي الحيوانات العاشبة الأهلية والبرية (أبقار، أغنام، ماعز، خيول، وغيرها..) بعد تناول الأعشاب والأعلاف الملوّثة، أو بتماس الخدوش والجروح مع التربة الملوّثة، وتصيب الحيوانات والطيور اللاحمة بتناول لحوم الحيوانات النافقة من الإصابة بالمرض”.
وأوضح “عبدالعزيز” أن: “العدوى عند الإنسان، تصيب بشكلٍ خاص المتعاملين مع الحيوانات الزراعية ومنتجاتها، وتحدث عن طريق الجهاز الهضمي بتناول اللحوم الملوّثة فتسبب الجمرة المعوية (الهضمية)، أو تنتقل عن طريق الجلد والجروح غير المرئية بالتماس مع المصادر الملوّثة أو الآفة الجلدية فتسبب الجمرة (الجلدية)”.
وتابع أستاذ علم الأحياء الدقيقة: “أو تنتقل بواسطة الاستنشاق الذي يؤدّي لدخول الأبواغ إلى الرئتين فتسبب الجمرة الرئوية، علماً أن الانتقال من شخص لآخر أمر نادر جداً”.
وحول التظاهرات السريرية، بيّن “عبدالعزيز”: “يأخذ المرض عند الحيوانات الشكل التسممي ويسبب موت مفاجئ نتيجة التسمم الدموي الجرثومي، وتأخذ عادةً الشكل فوق الحاد الذي يؤدّي إلى الموت خلال ساعتين بدون أن يترافق بأعراض مميزة”.
وأضاف الاختصاصي: “وقد يأخذ الشكل الحاد أو تحت الحاد الذي يترافق بحمى شديدة مع نزف من كل فتحات الجسم، ويكون الدم بلون أحمر داكن أو مسود (قطراني)، غير متخثر”.
وتابع د. “عبدالعزيز”: “أما عند الإنسان يأخذ المرض أشكال أخرى مختلفة تبعاً لطريقة العدوى، فالجمرة المعوية نادرة جداً، تتصف بتقيؤ الدم، إسهال دموي حاد، التهاب حاد في الأمعاء، وفقدان الشهية، بعد غزو الجراثيم لنظام الأمعاء تنتشر عبر مجرى الدم في جميع أنحاء الجسم، مما يؤدّي لتجرثم الدم والوفاة، وهي من الحالات النادرة خاصةً في البلدان المتقدمة حضارياً”.
وأوضح الاختصاصي أن: “الجمرة الجلدية تظهر بشكل حروق جلدية، تشكّل في نهاية المطاف قرحة لها مركز أسود (ندبة) تكون كبيرة أحياناً، غير مؤلمة، نخرية، حاكة وذات نقطة داكنة، تتشكّل الالتهابات الجلدية عموماً داخل موقع البثور بين يومين إلى 5 أيام بعد التعرّض، وتمثل 95% من الحالات”.
وأضاف الطبيب: “يصاحب الجمرة الجلدية أيضاً تضخم وألم في العقد اللمفاوية الموضعية، ويمكن علاج مثل هذه الحالات قبل دخول العصيات إلى الدم لأنها حينئذٍ تسبب تسمم جرثومي ووفاة”.
وتابع د. “عبدالعزيز”: “تعتبر الجمرة الرئوية أخطر أمراض الجمرة، تسبب التهابات رئوية، تبدأ بأعراض تشبه الإنفلونزا تشمل سعال جاف، إحساس بالضغط تحت الصدر، التهاب منصف نزفي مع انصباب جنب دموي، صدمة إنتانية يليها انهيار شديد في الجسم وتنتهي بالوفاة”.
وبيّن أستاذ علم الأحياء الدقيقة أن: “الإصابة تظهر في أماكن مختلفة من العالم بين فترة وأخرى، وتظهر كعدوى طبيعية بين الحيوانات والبشر بشكلٍ مستمر وعلى نطاق ضيق، حيث يتم كشفها وحصرها مباشرةً”.
وأشار الاختصاصي إلى أنه: “يمكن أن تنقل بين الدول مع حركة وانتقال الحيوانات المصابة، وحدثت إصابات متفرقة في الجوار (تركيا 2018، العراق عامي 2015 و 2021 )، وربما حدثت بعض الإصابات لدينا في المناطق الحدودية مع العراق، لكن لا توجد تقارير أو دراسات موثقة تؤكّد تسجيلها في سوريا”.
وحول إمكانية حدوثها، أشار “عبدالعزيز” إلى أن ذلك متعلّق بالجوار، وحركة الحيوانات البرية والأهلية بين الحدود.
وعن العلاج، قال الاختصاصي: “تفيد المعالجة المبكرة بجرعات كبيرة من الصادات الحيوية عن طريق الفم أو الحقن، والبنسللين من أوائل الصادات المستخدمة، وتوجد حالياً ذراري أو سلالات مقاومة له، لذلك يفضل استخدام السيبروفلوكساسين والدوكسيسيكلين”.
وتابع د. “عبدالعزيز”: “في الحالات المحتملة لاستنشاق الجمرة يمكن الوقاية بالعلاج المبكر بالصادات الحيوية لمنع احتمال الوفاة”.
وحول اللقاحات، بيّن الطبيب الاختصاصي أنها: “متوفرة، وهي لقاحات غير خلوية (أمريكية وبريطانية)، ولقاحات بوغة حية مضعفة (روسية)، وتعطى للحيوانات في المناطق المعرّضة للإصابة، أو عند احتمال انتشار العدوى”.
وأضاف د. “عبدالعزيز” “وتعطى اللقاحات للبشر أصحاب الخطورة العالية بالإصابة (عمال الجلود والدباغة، فرازي الصوف…)، وللجنود والعساكر لتجنّب خطورة استخدام الوباء كسلاح بيولوجي”.
وعن سبل الوقاية، بيّن “عبدالعزيز”: “حماية الماشية هي الحل، لذلك يجب حصر المناطق الموبوءة وعدم نقل الحيوانات إليها، تلقيح الحيوانات في هذه المناطق، عدم فتح الجثث النافقة بالمرض أو سلخها أو استخدام جلدها وصوفها، عدم ترك الجثث النافقة في العراء لتجنب وصول الحيوانات اللاحمة إليها”.
وتابع الاختصاصي: “دفن عميق للحيوانات النافقة بالمرض وفي أماكن بعيدة عن المياه والمرافق العامة لتجنب تلوّثها أو كشفها، والتخلّص من الجثث بشكلٍ فني سليم (الحرق، التغطية بالكلس الحي)”.
يُشار إلى أن مكافحة الجمرة تعتمد على الترصد الصحي البيطري – البشري كجزء من برامج الوقاية من الأمراض المشتركة حيوانية المصدر ومكافحتها.
وتوثق كتابات صينية انتشار مرض شبيه بالجمرة الخبيثة قبل 5000 عام، ووصف الشاعر الروماني “فيرجل” انتشار ما يشبه الجمرة الخبيثة في أوروبا خلال القرن الأول قبل الميلاد بقوله إنه: “اجتاح أعصاب الحيوانات.. ويبس لحمها قبل أن يفتت عظامها”.
ويعتقد بعض المؤرخين أن المرض كان موجوداً في مصر الفرعونية، وربما كان وراء الطاعون الخامس من “الطواعين العشرة” المعروفة فيها، وعرف المرض كسلاح بيولوجي، لا سيما بعد “هجمات الجمرة الخبيثة” الشهيرة عام 2001 في الولايات المتحدة.
شعبان شاميه – تلفزيون الخبر