الدولة المصونة للخالة أمونة
بعد الكثير من التحليلات عن الإعجاز في كيفية تحمُّل معظم السوريين ضنك العيش، وقصر ذات اليد، وإمكانياتهم العجيبة الغربية في مواجهة وحوش السوق “الضاريات”، وحيتان السوبرماركات الذين لا يشبعون، وغيلان تجارة المفرّق والجملة، وغير ذلك، وصلت الخالة أمونة إلى قناعة أنه لا بُد من أن نحاصر حصارنا.
وبدأت بتطبيق ذلك على أرض الواقع، إذ رفضت قدر الإمكان التعامل مع الأسواق، وأنشأت ما أسمته “الدولة المصونة للخالة أمونة”، وبدأت فعلاً بـ”تصوينها”، بمعنى حمايتها من أي تدخل قد يعيق سير العمليات الداخلية فيها.
وبمساعدة بعض المقربين والأصدقاء، بَنَت تنُّوراً على الحطب، وباتت تخبز خبزها بيديها، وتستغل النار المشتعلة في تسخين إبريق الشاي، وركوة القهوة، أو تحضير الباذنجان والبطاطا والبندورة والبصل المشويين، لإضافتهم لاحقاً إلى أطباق طبختها التي تُجهِّزها على الحطب أيضاً.
وبذلك استغنت بشكل شبه كامل عن البطاقة الذكية وانتظاراتها المريرة، فلا حاجة لها بعد الآن للوقوف ساعات من أجل تأمين ربطة خبز واحدة لها كل يومين، وليست مضطرة لانتظار رسالة الغاز كل شهرين أو ثلاثة، وكل ما تقوم به، هو أنها أثناء رياضتها الصباحية بين بساتين الزيتون تجمع العيدان المرمية بغية الاستفادة منها كحطب للطهي.
أما مواردها الغذائية من خضار وفواكه وما إلى هنالك، فإن الخالة أمونة زرعت الأساسيات منها في “أرض الديار”، وأصبحت تأكل مما تزرع، وتشرب مما تعصر، لذلك لا ويل لها نهائياً، بحسب جبران خليل جبران، بل كل حبورٍ وثبور، بحيث أنها تجبر خاطرها بصنع يديها.
وفي بستانها الصغير الذي أسمته “جنَّتها” هناك البندورة والخيار والخس والنعنع والبقدونس والباذنجان والكوسا والفليفلة الحمراء والخضراء، الحلوة والحارة، وبعض الأشجار المثمرة كالتفاح والخوج والمشمش والرمان ودالية عنب وشجرة جوز، وعدة أشجار زيتون، وغير ذلك.
ولذلك فإن الخالة أمونة، إلى جانب طبخاتها الشهية المنكهة بالحطب وأواني الفخار التي تستعملها، وهي من صنع يديها أيضاً، حضَّرت “مكدوساتها” من خيرات بستانها، وبلا منية أي أحد، حتى أن مونة الفطور من جبنة ومربى وزبدة وزعتر وغيرها، تصنعها هي عبر مقايضة قليل من إنتاجاتها ببعض الحليب والسُّكَّر وأحياناً الطحين.
وإمعاناً منها في جعل دولتها المصونة مكتفية بذاتها، فإنها أقامت في زاوية بستانها قنّاً للدجاج، يُعطيها في اليوم ما يقارب العشرة بيضات، تستفيد منهم في صناعة الفطائر، وفي تغذية أحفادها من البيض البلدي المُدلَّلْ كما تصفه.
أما بالنسبة للإنارة الليلية، طلبت من صديقها الحِرَفيّ أن يصنع لها مجموعة من قناديل الزيت، بأشكال جميلة، مع سلاسل للتعليق على الجدران أو في السقف، بمعنى أنها لم تعد بحاجة إلى الكهرباء و”وزارتها الفاصلة ككهربائها”، بحسب توصيفها، أي أن إنارتها أيضاً باتت صنع يديها بمساعدة زيتها الذي تستخرجه من زيتوناتها.
ولتشحن موبايلها، استعانت بجارها المخترع الذي حضَّر لها لوحاً صغيراً للطاقة الشمسية يشحن بطارية صغيرة، ومنها تشحن جهازها الخليوي. وكي لا تكون دولتها المصونة رهينة “وزارة الموارد المائية” و”وحدات مياهها المقطوعة من شجرة” كما تتهكم الخالة أمونة دائماً، فإنها تستفيد من البئر المحفور على زاوية بستانها، في الري والشرب وللاستخدام اليومي.
وفي أمسياتها الرائقة وصباحاتها في بستانها المسيَّج بالورود، يلتم أصدقاؤها ويستمعون إلى حكاياتها عن كيفية إنشاء هذه الدولة المصونة، وأن فكرتها الأساسية جاءتها من قصيدة محمود درويش “حاصر حصارك لا مفر”، داعيةً إياهم أن يحذوا حذوها، ويتخلصوا من الحصارات التي يفرضها مصاصو دماء السوريين على اختلاف أشكالهم.
بديع صنيج- تلفزيون الخبر