كضوء في نفق الحرب المظلم .. مهندس حمصي يخترع “طرفاً صناعياً” لحالات البتر في البلاد
لم تنعكس الحرب في سوريا سلبياً على نواحي التقدم الاقتصادي فحسب، بل وأثرت بشكل كبير على النتاج الفكري والإبداعي للمخترعين من أبناء البلد الذين أنهكتهم عشر سنوات من الحرب كحال كل السوريين.
وكضوء في نفق الحرب المظلم، لاحظ العالم أجمع إمكانيات المخترع السوري عندما قُدم له الدعم المادي واللوجستي اللازم عند وصوله إلى بعض الدول لاسيما الأوروبية منها، حيث أظهر قدرات فائقة تتغلب على النتاج العقلي المحلي في تلك الدول.
إلا أن للضوء هذا وهج براق أكثر في سوريا، وهي الغارقة في الظلام مجازيا وحرفيا منذ بدء الحرب التي لم تضع أوزارها رغم برودة جبهاتها عسكريا.
ورغم أن تراجع الحالة المادية التي وصلت إلى جيوب الكثير من السوريين قد وصلت لجيوب المخترعين أيضا، إلا أن قسما منهم لم يغادر بلاده، ولم تقف عائقا أمام رحلة العلم والإبداع.
المهندس غزوان مدلج، ابن قرية الفاضلية بمنطقة القصير بريف حمص الغربي، نموذج مضيء عن أولئك الذين دفعهم الحب لابتكار طرف صناعي ذكي لطفل يقربه بُترت يده في الحرب.
حيث كانت العاطفة مبدئيا، دافعاً قوياً لاختراع سيساهم بعودة المعنويات العالية وحب الحياة للآلاف ممن فقدوا ذراعا أو يدا، وهو الذي يمتلك في ذهنه مشاريع بعيدة المدى تشمل كل حالات البتر ومساعدة الجرحى بكافة إصاباتهم.
يقول غزوان لتلفزيون الخبر: “قمت بتصميـم الطرف الصناعي كمشروع تخرج لنيـل إجـازة في هندسة الاتصالات والإلكتـرون، في جامعة البعث وذلك بإمكانيات مادية قليلة وأدوات محلية الصنع اعتماداً على إشارة العضلات”.
وعن اختياره لهذا الاختراع يروي غزوان قصته قائلا: “خلال فترة دراستي في الجامعة، أصيب أحد أطفال أقربائي واسمه “عبد الهادي” بانفجار جسم مجهول من مخلفات المجموعات المسلحة خلال لعبه في الأراضي الزراعية وتسببت ببتر يده”.
“وحاول أهل الطفل شراء طرف تجميلي له، وذلك بعد تدهور حالة “عبودة” النفسية بعد البتر، مع عدم قدرتهم كحال معظم السكان على شراء طرف إلكتروني طبي لكلفته العالية”.
وأضاف: “تبين خلال دراستي الجامعية أن جسم الانسان يمتلك إشارات عضلية وكيميائية وفيزيولجية حيث قمنا بدراستها بالتفصيل”.
“وهذا ما ولّد الفكرة في ذهني و دفعني للتفكير بتطبيقها، فدرست العضلة عند الإنسان وتبين أنها تصدر إشارات معينة، وقمت بشراء القطع الإلكترونية التي لم أجدها بداية في السوق، ثم وجدتها في حلب لاحقا”.
“ومجرد شحن تلك القطع إلى حمص، فحصت العضلة عند عبد الهادي، وكانت المفاجأة أنها سليمة وتعطي الإشارات المطلوبة بشكل سليم”.
ويوضح غزوان لتلفزيون الخبر عن إحدى الصعوبات التي واجهته في الاختراع، “واجهت تحديا وهو كوني مهندس إلكترون ولست ميكانيكاً، وبحثت مطولا عن مهندس ميكانيك يساعدني في العمل حتى وجدت مهندسين هما ابراهيم الحماش وعلاء غزال المؤسسين لشركة delta team”.
وأردف “كنت اقوم بإرسال القياسات والإشارات للمهندسين عن طريق برنامج الواتس آب ليقوموا بتصميم هيكل الذراع حسب هذه القياسات”.
“وكان الهيكل المصمم مناسبا للزراعة، بعد تحويل الاشارات العضلية عند الطفل لإشارات كهربائية يمكن التحكم بها عن طريق متحكمات دقيقة، وتحويلها إلى إشارات رقمية تتحكم بحركة فتح وإغلاق الذراع”.
وبين “أن التكلفة المادية كانت باهظة ومكلفة، كوني طالب أدرس في الجامعة ولست صاحب شركة، لكنني وبهذه الإمكانيات البسيطة استطعت تحقيقه بنسبة 70% من حركة اليد الأساسية والتي هي فتح واغلاق وشد وترك”.
ويشير غزوان أنه ” ضمن المجال التطويري للذراع وحسب الإمكانيات المتوقعة والرصد المستقبلي، فهناك إمكانية لتصغير الدارة وزيادة دقة الحركة إلى كل إصبع على حدى، وجعل العمل الميكانيكي أكثر دقة وزيادة القدرة على المسك والإفلات لتساعد أي شخص على القيام بحركة اليد بأكبر قدر مستطاع”.
مضيفا ” أفكر مستقبلا بمشروع وهو العمل على الأطراف السفلية، وإمكانية صنع طرف سفلي مع حساس توازن حتى لا يسقط الشخص عند وضع الطرف الصناعي”.
“لكن المشروع هذا بحاجة لدراسة مطولة وعمل دؤوب، إضافة للدعم المادي لأن الأمر ليس بسيطا ويحتاج لقطع وتجهيزات، لكنني وبكل فخر استطعت من الإمكانيات المتاحة بين يدي أن أصنع شيئا من لا شيء”.
ويتحدث غزوان عن لحظة التجريب الأولى على ذراع الطفل قائلا:”عندما أنجزت الاختبار النهائي على محرك منفصل، بدأت بالتطبيق العملي وطلبت من الطفل أن يشد العضلة لأعرف إن كانت نشطة أم لا، وعندما بدأ المحرك بالعمل مع شد الطفل لعضلته بدأ الجميع بالبكاء وأولهم أنا لشدة الفرحة”.
“وفي تلك اللحظة شعرت أنني مهندس حقيقي، فهذا أقل ما يمكنني فعله عند تخرجي بأن أساعد أبناء مجتمعي وبلدي ممن يعانون من حالات بتر بسبب الحرب، فهناك الآلاف من عبودة الذين يجب علينا جميعا الوقوف معهم”.
ويقول غزوان” آمنت بفكرتي، وكنت مصرا على تحقيقها والسعي وراءها منذ 4 سنوات، وكنت شاهدا على تحولها من الورق إلى فكرة حية، واتجهت عندها للعمل على الجانب الميكانيكي مع فريق ديلتا تيم”.
ويؤكد غزوان لتلفزيون الخبر أن”العمل هذا هو نواة لفكرة أضخم وأكبر ولم تنته الفكرة عند هذا الحد، حيث أطمح لمساعدة كل جرحى بلادي الذين تعرضوا لحوادث مشابهة فالحرب وضعت بثقلها على الجميع”.
” حققت حاليا حركة الفتح والإغلاق، وأفكر مستقبلا أن أطور هذه الحركات إلى كل إصبع على حدى، وهذا موضوع مرتبط بحالة البتر، لأن كل حالة لها وضعها الخاص وبالتالي حل مختلف عن غيره”.
ويوجه غزوان رسالة عبر تلفزيون الخبر أن “يؤمن الجميع بفكرته، حيث يمكن أن نبدأ بخطوات بسيطة يمكن أن تبدأ وأن نسعي لتحقيقها، فنحن لسنا ضعافا ولدينا العلم الكافي والخبرة اللازمة، والأهم من كل شيء هو تحويل العلم إلى عمل كي تعم الفائدة على الجميع”.
“وهدفي البعيد هو مساعدة جرحى بلادي وكل الإنسانية لإخراج الجريح من حالته النفسية، لنبرهن له أن الحياة مستمرة ولا تتوقف عند بتر الطرف”.
“كما أتوجه للمخترعين بأن يثابروا على العمل والتجربة رغم الصعوبات، فأنا لم أنجز هذا الطرف إلا بعد حرق عشرات القطع والتجربة مرارا حتى نجحت بتحقيق هدفي، وشعور الوقوف بفخر أمام اللجنة كان لا يوصف، مع تحقيق هدفي رغم العوائق التي واجهتني والتي سببها الأول هو الحصار على سوريا”.
“وهذه رسالة أخرى للجميع أننا قادرون على صنع مستقبلنا بأيدينا، وأوروبا ليست أفضل منا وما علينا فقط هو العمل الدؤوب، و ألا نكون مستهلكين فقط بل أن نعتمد على أنفسنا حتى نحقق الاكتفاء الذاتي بكل المجالات وننهض في بناء بلادنا مجددا”.
يذكر أن غزوان مدلج حصل على علامات قدرها 224.3 في الثانوية العامة، ومعدل جامعي قدره ٧٥ %، ولا يفكر أبدا بمغادرة البلاد بالمطلق إلا في حال عدم توفر الدعم له للوصول إلى ابتكارات أقوى وأكثر تطورا قادرة على إفادة أكبر شريحة ممكن من أبناء المجتمع.
عمار ابراهيم _تلفزيون الخبر_ حمص