“الخالة أمونة” وتذاكر الباص القديمة
عثرت “الخالة أمونة” في إحدى حقائبها القديمة على تذاكر لباصات النقل الداخلي مكتوب عليها “تُحفظ للمراقبة”، وأحسَّتْ بحنين غريب إلى تلك الأيام، لكنها في الوقت ذاته راقبت تواتر ارتفاع أسعارها من 900 قرش إلى عشر ليرات فتسع عشرة ليرة، وعندما أمعنت التفكير أدركت أن ذاك الارتفاع تمَّ في بدايات الحرب.
وَرَاعَها للخالة أمونة العبارة المكتوبة على وجه إحدى التذاكر “اتجه للخلف وأفسح المجال للصاعدين”، فأحسَّت ببلاغتها، وامتداد معناها في الزمن الحاضر، فجميعنا بتنا في الخلف، ولا نملك إلا فسح المجال للصاعدين من سماسرة الحرب، وذئاب البورصة، وصيارفة موتنا اليومي.
والأنكى أننا أصبحنا خَلْفَ الخَلْف، ومرصوصين إلى بعضنا كقطرميز المخلل، في عِزّ الكورونا، ولا شيء يتقدَّم في حياتنا سوى الزَّمن والأسعار، بينما الباقي يتراجع بتواتر سريع على كافة المستويات: اقتصادياً واجتماعياً وصحياً وتربوياً وثقافياً…
تقول الخالة أمونة: على وجه التذكرة كان يُكْتَب “الباب الخلفي للنزول”، أما الآن فكل الأبواب تُفضي إلى نزولنا من محطات الحياة، فلا الرواتب تكفي، والصحة “على قَدّها”، والضغوط النفسية فوق المعقول، ولا منطق في أي شيء، وكأننا أصبحنا أبناء الهباء لا أكثر ولا أقل.
وتضيف: هذا ليس تشاؤماً، وإنما توصيفاً دقيقاً للواقع، الذي وقع على رأسنا منذ عشر سنوات وما زال يقع، وفي كل مرة تكون وقعته أقسى من التي قبلها، خاصةً منذ الـ2019 وما بعدها، حين تكرَّسَ سُلطان التُّجار على كل شيء، وأصبحنا سلعةً بخسة في سوق الصرف.
والمصيبة الحقيقية، كما توضح الخالة أمونة، أن الجميع باتوا يتاجرون بنا: المسؤولون، سائقو التكاسي، بائعو الخضرة، أصحاب المحلات والبقاليات، المكاتب العقارية، الصيدليات، الأطباء، المحامون، أساتذة المدارس ودكاترة الجامعات، وأصحاب المهن الحرة،…
“ومن عَزْم الأسى، وسطوة الألم، صارت أرواحنا منكوبة”، تتابع خالتنا، “حتى لم يبق فينا شيء نتَّكئ عليه سوى ذاكرتنا، وبعض اللمسات الإنسانية لِيَدِ حبيب، أو خفقة موسيقى، أو رفّة جَمال، أعادت إلينا الإيمان بأن الطريق، كما تشير تذاكر الباص القديمة، هي “ذهاب وإياب”.
تقول الخالة أمونة: مُنْيَةُ قلبي أن نعود إلى ما كُنَّا عليه، حيث راتب الموظف العادي يشتري له 12 كيلو لحمة غنم، أو 35 كيلو جبنة، أو 100 كرتونة بيض، وقِس على ذلك من الملبس والمشرب والمسكن، بحيث أننا كنا شَبْعَى من كل شيء.
وتضيف: كُنَّا مرتاحين، ولا نُعاني من أي نقص لا في الأساسيات ولا الكماليات، ولا نخاف أن نتسوَّق، ولا نخشى الحرمان، ولا تنقبض قلوبنا في منتصف الشهر، ولا نتعامل مع الفواتير مثل عقوبات مُلزِمة.
وفي خضم استذكارات “الخالة أمونة”، أفصحت لنا بأن الحياة كانت سهلة، ووقعها في القلب جميل مثل ذاك الصوت الذي يصدر أثناء “قطع التذكرة” في باصات النقل الداخلي، بحيث أن البعض كانوا يقطعون تذكرتهم مرتين للمتعة، ربَّما لإيمانهم بمقولة “هرقليطس”: “لا يخطو إنسان في النهر نفسه مرتين”.
بديع صنيج- تلفزيون الخبر