“الخالة أمونة”.. قارئة الفنجان ومؤرشفة الأحزان
اعتادت جارات “الخالة أمونة” دعوتها، بشكل يومي تقريباً، لشرب فنجان قهوة، بغية استغلال مقدراتها العجيبة في قراءة الفنجان، لاسيما أنها كانت تفتح لهم أبواباً واسعة للأمل والسرور، أما مؤخراً فصارت جُملة “طريقك مسدودٌ مسدود” هي اللازمة التي تتكرر في نهاية كل قراءة.
وتعزو خالتنا الأمر، ليس إلى تبدُّل مزاجها، فهي لم تُغيِّر شيئاً في طريقة فَكْفَكَتِها لطلاسم الخطوط السوداء والفراغات البيضاء، لكن الأمر مرهون بأرواح شاربي القهوة التي باتت مثقلةً أكثر بالهموم والأسى والأحزان.
تقول “الخالة أمونة” في تبريرها الخاص بنا: “كنت أقول مثلاً لأم أحمد بأن “زوجك يمدُّ يده إلى مسألة ستتحقق”، وكانت تتحقق فعلاً، في حين أنه الآن لم يعد يظهر في فنجانها إلا أيدٍ مغلولة أو قصيرة، وربما ذلك بسبب “قصر ذات اليد” السائدة، أو لأن “العين بصيرة واليد قصيرة”.
وتضيف: بعد أن بَصَّرْتُ مراراً وتكراراً لأم خالد، وفي كل منها كانت تبدو أمامها فسحات بيضاء واضحة وواسعة، بات فنجانها يُعمي القلب والعينين، لكثرة السَّواد الذي فيه، مع أن قهوتها “خفيفة” بغية توفير البن الذي صار الكيلو الواحد منه بحدود العشرة آلاف ليرة.
وتشرح خالتنا العزيزة، بأنها لم تكن تتقصد أن تُفائل أحداً، ولا أن تضع الآخرين في أوهامٍ حلوة، ولا أن ترسم آمالاً كاذبة، بل تُقدِّم مجرد قراءة في خطوط الفنجان، وما زالت تُحافظ على ذات الأسلوب، لكنها لا تستطيع إلا أن تكون صادقة في تحليل الحروف والأرقام والأشكال التي تراها.
تقول “الخالة أمونة”: كثيراً ما رأيت “ديكاً ينادي بالنَّصر” و”كلباً صديقاً”، ونبَّهت جاراتي من “أفعى عدوّة” و”عيون حاسدة”، وواسيتهم بـ”بساط أبيض”، أو “ضيف منتظر”، أو “طريق مفتوح”، أو “تلفون بخبر مفرح”، لكن على ما يبدو “زمان أول تحوّل” وفسحة البياض تعذَّرت حتى في الفنجان.
وتفنِّد “الخالة أمونة” بأنها لطالما رأت في فنجان سميرة “سمكة رزقة”، وفي بعض الأحيان تكون كبيرة، وفعلاً تخبرها جارتها فيما بعد أن زوجها نال مكافأة في وظيفته، أما الآن فلا سمكة ولا من يحزنون، مجرد أرقام في دفاتر، على الأغلب هي دفاتر ديون.
وتوضح قارئة الفنجان الذي لا يخلّ، بأن حرف الميم كان يرافق فنجان أم عبّود، وتفسيره “تَتْميم الأيام”، وأيضاً “الجمل” ومعناه “تجميل الأيام” بكل الأفراح والسعادات الممكنة، بينما الآن أكثر ما يبدو في فنجانها حرف “الخاء” الذي يُفرِّغ الجمل مما حمل.
أما “سفينة الحظ” التي لازمت قراءة “الخالة أمونة” لفنجان جارتها الشابة “خلود”، فصارت حطاماً وركاماً، و”حصان العزّ” الذي كانت تستشعر من ورائه عريساً شهماً هُماماً، تحول إلى “سلحفاة تحمل خبراً”، وعلى الأغلب ليس ساراً.
وأيضاً “الكرسي العالي” و”ألف العزّ” الذي تنبأت بهما لأم إبراهيم، وتحققا باستلام زوجها لمنصب في المديرية التي يعمل بها، لم يلبثا أن اختفيا نهائياً، وصارت خالتنا تخجل من المصارحة بحرف “الذال” الواضحة في أسفل الفنجان.
ولأن “الخالة أمونة” لا تعرف اللَّف والدَّوران، قلَّلت كثيراً من لقاءات القهوة، خاصةً بعدما طلبت من ابنة جارتها، الصَّبية الجميلة المخطوبة “رشا” أن “تَبْصُم”، فلم يظهر “مَحْبَس” زواج كما المأمول، وإنما كفن أبيض تحقق باستشهاد خطيبها.
ومن حينها، كلما طلبت منها إحدى جاراتها أن تقرأ لها الفنجان، تتهرب من ذلك بأن نظرها لم يعد يساعدها في فك طلاسم الخطوط، أو تبدأ بغناء رائعة عبد الحليم حافظ: “بصّرت ونجّمت كثيراً، لكني لم أقرأ أبداً فنجاناً يُشبه فنجانك”.
بديع صنيج- تلفزيون الخبر