مبنى مجلس الشعب السوري.. القصة حجراً حجراً
على أنقاض منسيّة لمسرح وسينما نال منها حريق هائل، اختير المكان ليصبح بناء للبرلمان السوري، لايزال حتى اليوم شاهداً على تاريخ سوريا الحديث بكل مفاصله وأوجاعه وتشريعاته التي غيرت وجه البلد.
فكيف بُني المجلس وما التعديلات التي طرأت عليه خلال قرن من الزمن؟
ابتدأت حكاية البناء على أنقاض سينما ومسرح «جناق قلعة» التي شيدها العثمانيون عام 1916م، بالاتفاق مع الألمان في طريق الصالحية، وهي أول دار مسرح وسينما بدمشق على الطراز الأوروبي والشرقي شديدة الفخامة.
لم تدم الحال طويلاً في سينما جناق قلعة، ففي مساء أحد الأيام ولم يكن مضى على افتتاح الدار قرابة الشهر، سمع أهالي دمشق أصوات انفجارات مدوية تبعتها ألسنة النيران الهائلة والدخان الكثيف غطى سماء دمشق.
احترقت دار سينما جناق قلعة ليلاً بسبب ماس كهربائي، وروى بعض أهالي دمشق آنذاك أن احتراق السينما كان كارثة كبيرة أودت بحياة العديد من أبناء دمشق الذين كانوا في السينما وتفحمت جثثهم من شدة وضراوة النيران.
بقيت سينما “جناق قلعة” خرائب وأنقاضاً مدة طويلة، وفي زمن الاحتلال الفرنسي أراد الرئيس تاج الدين الحسني بناء مقر للبرلمان السوري.
وتم البحث عن موقع في أنحاء دمشق ولم يجدوا أفضل من موقع هذه السينما، فاستقر الرأي على بناء مقر للبرلمان السوري مكانها، وكان ذلك عام 1928م.
تم بناء دار البرلمان على عدة مراحل، انتهت المرحلة الأولى عام 1932م وتضمنت بناء طابقين، مدخلهما مقابل وزارة المواصلات والتي كانت فيما مضى مقراً للدرك الفرنسي.
ويقال إن هنالك سرداباً تحت الأرض يربط بناء البرلمان مع مقر للدرك كان يستخدم لتنقلات الدرك الفرنسي، وقد فرشت أرض قاعة الاجتماعات في البناء بالرخام الأبيض.
أما جدرانها فزينت حتى ارتفاع ثلاثة أمتار بالرخام الملون، وما تبقى من الجدران زين بنقوش عربية صنعت من الجبصين، وهذه القاعة هي الآن استراحة لأعضاء مجلس الشعب.
وشهدت هذه القاعة التخريب والتهديم في 29 أيار 1945 حيث استشهد فيها عدد من حامية البرلمان السوري إثر اعتداء المستعمر الفرنسي على البرلمان.
بعد هذا العدوان فكر رئيس مجلس النواب سعد الله الجابري، بإنشاء قاعة جديدة لاجتماعات النواب تستوعب عدداً أكبر منهم وتشمل على شرفات واسعة للزائرين إضافة إلى إعادة ترميم وبناء ما هدم من أقسام منه.
بدأ العمل عام 1947 في تجديد بناء دار البرلمان وتم في هذه المرحلة إجراء تعديلات جذرية في التقسيمات الداخلية لطوابق البرلمان، حيث ألغيت العديد من الغرف وأنشئت قاعة كبيرة لاجتماعات أعضاء البرلمان تبلغ مساحتها 400 متر مربع.
إلا أن التزيينات والنقوش العربية للقاعة والجدران تطلبت مدة سبع سنوات انتهت في عام 1954، وانعقدت أولى جلسات البرلمان في القاعة الجديدة بعد سقوط نظام أديب الشيشكلي بتاريخ 14 تشرين الأول 1954 وما زالت إلى الآن تعقد اجتماعات المجلس فيها.
كانت هذه القاعة تستوعب 140 مقعداً للنواب عدا الأماكن المخصصة للحكومة (وهي الآن تستوعب 250 عضواً إضافة إلى الأماكن المخصصة للسلطة التنفيذية).
وفي هذه المرحلة أصبح البرلمان مؤلفاً من كتلتين على شكل جناحي العُقاب السوري (شعار سوريا). حتى زمن رئاسة فارس الخوري، حيث ارتأى أن القاعات التي كانت آنذاك لاجتماعات اللجان البرلمانية وسكرتارية المجلس لم تعد كافية، فأمر ببناء سبع غرف في الطابق الأرضي وكذلك سبع غرف في الطابق العلوي
أنشئت جميع واجهات دار البرلمان السوري من الحجر (النحيت الناعم الأبيض) المستخرج من مقالع تلفيتا، باستثناء بعض المداميك التي أنشئت من الحجر (النحيت الأسود البازلتي) المستخرج من مقالع دير علي.
وبعض التزيينات على الواجهة المصنوعة من الرخام الأصفر من مقالع عين التينة، أما الطراز المطبق على الواجهات فهو الطراز العربي الحديث وهو طراز بديع استعملته بصورة عامة وزارة الأشغال العامة والمواصلات آنذاك في معظم الأبنية الحكومية.
ويعود الفضل في نحت واجهات مبنى البرلمان للفنان السوري من أصل يوناني “ميخائيل ديمتري إليوفيتش”، الملقب أبو ديب الترك، مواليد حي القصاع حارة الصليب عام 1896م.
وكان للفنان “محمد علي الخياط” الدور الكبير والعمل المضني في الزخرفة الداخلية لقاعات البرلمان، وفرشها بالأثاث التقليدي الذي طوره (الخياط) في صناعة الخشبيات المرصعة بالفضة والمنزلة بالصدف والمحفورة على الطريقة القيصرية.
وتابع أولاده الاهتمام بهذه القاعة على مر الأيام في صيانتها وترميمها.. فجاء بناء دار البرلمان السوري ذروة في استقطاب جهود الفنيين السوريين التي استهدفت جعله معلماً من معالم الوطن وتاريخاً لأزمنة وفنون متنوعة في العمارة والهندسة الداخلية والخبرة الوطنية.
يعتبر مبنى مجلس الشعب من المباني المدرجة على لائحة التراث العالمي، ضمن دمشق القديمة، ورقمه 140 من أصل 216 مبنى مسجل.
تلفزيون الخبر