في ذكرى ميلاد الشاعر محمود درويش الذي “استبدل بالقاموس قلبه”
في الثالث عشر من شهر آذار عام 1941، ولد فلسطيني حمل اسم محمود درويش، كتب له القدر أن يكون شاعراً، “لا يكتب الشعر، لكنه يقاتل”، فكان شاعر الأرض والثورة، وشاعر الجرح الفلسطيني النازف، ونبضة في قلب كل عاشق، ينتمي لأرضه وحبيبته بذات الشغف.
وُلِدَ محمود درويش في قرية البروة الفلسطينية التي تقع على جبل الجليل قرب ساحل عكا لأسرةٍ كبيرة من خمسة أبناء وثلاث بنات.
أتم درويش تعليمه الابتدائي في قرية دير الأسد بالجليل قبل أن يفر مع أسرته ضمن عشرات الآلاف من اللاجئين الفلسطينيين الذي هربوا من البلاد جراء القذف بالقنابل عام 1947 إلى جنوب لبنان.
لكنه عاد بعد ذلك بعامين مع أسرته إلى البلاد متسللاً عن طريق دليل فلسطيني يعرف الطرق السرية للجليل ليجد أن قريته دُمِرت تماماً فانتقل مع أسرته إلى قرية دير الأسد كلاجئين.
انتقلت عائلته إلى قرية أخرى اسمها الجديدة، وامتلكت فيها بيتاً، لكن محمود عاش في حيفا لمدة عشر سنوات وأنهى فيها دراسته الثانوية.
بعد الثانوية انضم للحزب الشيوعي “الإسرائيلي” وعمل في صحافته محرراً ومترجماً في صحيفة الاتحاد ومجلة الجديد التابعتين للحزب نفسه، وترقى بعد ذلك لرئيس تحرير المجلة، كما اشترك في تحرير جريدة الفجر.
اعتقلته قوات الاحتلال الصهيوني مراتٍ عديدة بتهمة القيام بنشاطٍ معادٍ لـ”إسرائيل” لآرائه السياسية وتصريحاته المعادية، فاعتقلوه خمس مرات أولها عام 1961 ثم 65 و66 و67 و69، كما فُرضت عليه الإقامة الجبرية حتى عام 1970.
كانت تلك الفترة شديدة الصعوبة على الفلسطينيين عامةً وعلى محمود خاصةً، ويحكي عنها واصفاً إياها: “كنت ممنوعاً من مغادرة حيفا مدة عشر سنوات. كانت إقامتي في حيفا إقامة جبرية ثم استرجعنا هويتنا، هوية حمراء في البداية ثم زرقاء لاحقاً وكانت أشبه ببطاقة إقامة”.
وتابع درويش “كان ممنوعاً عليّ طوال السنوات العشر أن أغادر مدينة حيفا، ومن العام 1967 لغاية العام 1970 كنت ممنوعاً من مغادرة منزلي، وكان من حق الشرطة أن تأتي ليلاً لتتحقق من وجودي، وكنت أُعتقل في كل سنة وأدخل السجن من دون محاكمة. ثم اضطررت إلى الخروج”.
حاول محمود درويش السفر إلى باريس عام 1968 لكن السلطات الفرنسية دخوله الأراضي الفرنسية رفضت لأن هويته غير محددة لجنسيته، فأعادته السلطات إلى الأراضي المحتلة.
خرج بعدها عام 1970 متوجهاً إلى موسكو للدراسة وكانت هذه أول غربةٍ له بعيداً عن الوطن، كان طالباً في معهد العلوم الاجتماعية يسكن في غرفة في مبنى جامعي؛ أقام في موسكو سنة واحدة وتعلم القليل من الروسية كي يستطيع الاندماج في البيئة هناك.
لم يتحمل محمود درويش الحياة في موسكو فقرر الذهاب للقاهرة، وهناك اتخذ قراراً صعباً بعدم العودة لفلسطين، أحب العيش في القاهرة رغم بعده عن الوطن فهي على الأقل مدينة عربية بأسماء شوارع عربية وأناسٍ يتحدثون بالعربية، كما وجد نفسه بين الأدب المصري الخالص.
وعن هذا يقول: “وجدت نفسي أسكن النصوص الأدبية التي كنت أقرؤها وأعجب بها، فأنا أحد أبناء الثقافة المصرية تقريباً والأدب المصري، التقيت بهؤلاء الكتّاب الذين كنت من قرائهم وكنت أعدّهم من آبائي الروحيين، التقيت محمد عبد الوهاب، وعبد الحليم حافظ وسواهما، والتقيت كبار الكتاب مثل نجيب محفوظ ويوسف إدريس وتوفيق الحكيم. ولم ألتق بأم كلثوم وطه حسين، وكنت أحب اللقاء بهما”.
عينه محمد حسنين هيكل في نادي كُتّاب الأهرام مع نجيب محفوظ ويوسف إدريس وعائشة عبد الرحمن في مكتب واحد، وبجانب توفيق الحكيم في مكتبٍ منفرد، فنشأت بينه وبينهم صداقة قوية.
انتقل درويش بعد ذلك لبيروت لتصبح ورشة أفكاره ومختبر تياراته الأدبية والفكرية والسياسية، ولسوء الحظ اندلعت الحرب الأهلية في لبنان بعد فترةٍ من انتقاله، ومات بعض أصدقاؤه هناك مثل غسان كنفاني، فتحول من الشعر العاشق الرومانسي لشعر الرثاء والأوطان.
بعد أن هدأت أوزار الحرب بقي في لبنان ولم يخرج منها كما خرج آخرون حتى احتلت “إسرائيل” لبنان –على خلاف ما توقع– فقضى أياماً صعبة جداً لا يعرف فيها أين يبيت فكان ينام في مطعم حتى لا يقبض “الإسرائيليون” عليه حتى حدثت المجزرة الكبرى – مجزرة صبرا وشاتيلا– فأيقن أن وقت الهرب مرةً أخرى حان.
رتب الهرب عن طريق السفير الليبي في بيروت إلى الأشرفية ومنها إلى سوريا ومنها إلى تونس ثم إلى باريس، ليقضي هناك حوالي 10 سنوات على فترات متقطعة في الثمانينيات.
عمل هناك في منظمة التحرير الفلسطينية واستقال من اللجنة التنفيذية لها احتجاجاً على اتفاق أوسلو، ثم عام 1981 أسس مجلة الكرمل التي عمل على تحريرها وأكمل إصدارها حتى بعد سفره من لبنان، واستمر في ذلك حتى وفاته، وصدر منها 89 عدداً وخصصوا العدد التسعين لسيرته الذاتية بعد وفاته.
بعد ذلك في التسعينيات أصبحت العودة لرام الله متاحةً، فقرر العودة إليها لأنه لن يكون مرتاحاً في منفاه بأي شكل فاختار العودة إلى عمان، لأنها قريبة من فلسطين ولأنها مدينة هادئة.
ذهب درويش إلى الأردن عام 1995 ولم تختلف حياته فيها كثيراً عن حياته في القاهرة وبيروت وباريس، وكان أبرز ما يميزها أنها كانت للعمل الجاد وخير دليل على ذلك أنه صدر له دواوين شعرية كثيرة في تلك الفترة.
بدأ محمود درويش الشعر في سن صغيرة/ فكانت أول قصائده وهو في المرحلة الابتدائية، وفي تلك الفترة في الوطن اتسم شعره بالتكون وبداية وعيه بقضية وطنه وانتمائه له تحت قبضة الاحتلال.
واتسم عندها بالماركسية ومال للتيار الرومانسي في الشعر العربي المعاصر مقتدياً بشعراء أمثال نزار قباني، وكان نصه الشعري مباشراً، حتى خرج ليعيش في القاهرة ومن ثم بيروت فبدأ شعره في أخذ طابع الثورية والاهتمام بالقومية العربية.
ورويداً رويداً تطور أسلوبه فأخذ يستخدم دلالات شعرية أكثر واستخدم التاريخ والدين والأسطورة والأدب والحضارة أكثر من قبل بكثير.
ثم المرحلة الثالثة والأخيرة عندما بدأ في الدخول في مرحلة الوعي الممكن والحلم الإنساني –خاصة في باريس– بعدما فقد الأمل في القومية العربية بعد الخروج من لبنان والحرب الأهلية هناك فساعده ذلك على الانفصال تدريجياً عن خطابه الإيديولوجي المباشر.
حصد محمود درويش بشعره الكثير من الجوائز مثل جائزة البحر المتوسط 1980 ودرع الثورة الفلسطينية 1981 ولوحة أوروبا للشعر 1981 وجائزة الآداب من وزارة الثقافة الفرنسية 1997 وغيرها الكثير.
تزوج درويش من الكاتبة رنا قباني ولكنهما تطلقا، لاحقاً في منتصف الثمانينيات تزوج من حياة هيني وهي مترجمة مصرية، ولم يرزق بأي أطفال من كلا الزواجين.
توفي الشاعر محمود درويش في التاسع من آب عام 2008، بعد إجراءه عملية قلب مفتوح في مركز تكساس في الولايات المتحدة الأمريكية، ودُفن في قصر رام الله وأعيد تسميته ليكون “قصر محمود درويش للثقافة”.
رنا سليمان- تلفزيون الخبر