في ذكرى الاغتيال .. ناجي وحنظلة والرصاصة “الخرساء”
لم يدرك القاتلون في تلك الرصاصة الغادرة حجم ضعفهم أمام أبدية ناجي العلي، ولم يدركوا أن الرأس الذي أصابته رصاصتهم المكتومة محال قتل أفكاره، وأن حنظلة بقي شاهداً حقيقياً على كل ما حدث ويحدث .. ولم يمت بعد.
ولم يدركوا أن حنظلة باقٍ في ذاكرة الأجيال، وأنه نبراساً لكل طفل فلسطيني حمل الحجارة ليقاتل بها فكانت أبلغ من لغة الرصاص، كما لم يكن هذا الرصاص القاتل إلا الدليل القاطع على عدم جدوى محاولاتهم كافة لقتل الكلمة والحرف والفن الذي جابههم بالحق.
يسجل التاريخ يوم الثاني والعشرين من تموز 1987 ذكرى اغتيال ناجي العلي ووفاته في التاسع والعشرين من آب من نفس العام بعد أن مكث في الإنعاش لأسابيع، لكن هذا الاغتيال لم يغيب فكر ناجي، ولم يُنسي حنظلة.
فناجي العلي المولود في فلسطين في قرية الشجرة والذي اختُلِفَ في تاريخ ميلاده ورُجِّحَ أنه في العام 1937، هُجِرَ من فلسطين مع أهله في العام 1948 وعاش في الشتات وفي المخيمات حياة البؤس والشقاء والفقر والمعاناة، لكن دون أن تفتر عزيمته أو تلين.
وظل صوته مدوياً، مناضلاً بالكلمة والريشة المبدعة لاسترجاع ما أخذ منه بالقوة، وأنجز خلال رحلة دامت نحو ربع قرن، ما يزيد عن عشرين ألف لوحة خلال عمله في “الطليعة” و “السياسة”، و”القبس” (الكويت)، و”السفير” اللبنانية.
فهو من قال: “اللي بدو يكتب لفلسطين، واللي بدو يرسم لفلسطين، بدو يعرف حالو: ميت”، ومن قال: “هكذا أفهم الصراع أن نصلب قاماتنا كالرماح ولا نتعب”، وهو من قال: “الطريق إلى فلسطين ليست بالبعيدة ولا بالقريبة، إنها بمسافة الثورة”، والكثير الكثير مما خلّده ناجي ورسخ في الذاكرة.
وكان ناجي شاهداً على أهم الأحداث العربية والعالمية، وشكلت رسوماته مدونة، وتاريخ للمقاومة والمعاناة التي يعيشها الشعب الفلسطيني والعربي، وكان يقظاً لكل الأسباب التي تقف في مواجهة حركة التحرر العربي.
و شهد الصحفي والأديب الفلسطيني غسان كنفاني على ثلاثة من رسوم ناجي في زيارة له في مخيم عين الحلوة، فنشر له أولى لوحاته وكانت عبارة عن خيمة تعلو قمتها يد تلوّح، ونشرت في مجلة “الحرية” العدد 88 في 25 أيلول 1961م.
و في سنة 1963م سافر إلى الكويت ليعمل محرراً ورساماً ومخرجاً صحفياً، فعمل في الطليعة الكويتية، السياسة الكويتية، السفير اللبنانية، القبس الكويتية، والقبس الدولية.
وابتدع ناجي العلي “حنظلة” الشخصية التي تمثل صبياً في العاشرة من عمره، وطرحها في الكويت عام 1969م في جريدة السياسة الكويتية، وأدار حنظلة ظهره في سنوات ما بعد 1973م وعقد يديه خلف ظهره، وأصبح بمثابة توقيع ناجي العلي على رسوماته.
وعن حنظلة قال ناجي: “ولد حنظلة في العاشرة في عمره وسيظل دائماً في العاشرة من عمره، ففي تلك السن غادر فلسطين وحين يعود حنظلة إلى فلسطين سيكون بعد في العاشرة ثم يبدأ في الكبر، فقوانين الطبيعة لا تنطبق عليه لأنه استثناء كما هو فقدان الوطن استثناء”.
وأما عن سبب تكتيف يديه فيقول ناجي: “كتفته بعد حرب1973م لأن المنطقة كانت تشهد عملية تطويع وتطبيع شاملة، وهنا كان تكتيف الطفل دلالة على رفضه المشاركة في حلول التسوية الأمريكية في المنطقة، فهو ثائر وليس مطبع”.
وعندما سُئل ناجي العلي عن موعد رؤية وجه حنظلة أجاب: “عندما تصبح الكرامة العربية غير مهددة، وعندما يسترد الإنسان العربي شعوره بحريته وإنسانيته”.
ومن شخصيات ناجي العلي أيضاً المرأة الفلسطينية التي أسماها فاطمة و التي لا تهادن، وله شخصية السمين ذي المؤخرة العارية والذي لا أقدام له (سوى مؤخرته)، وشخصية الجندي الإسرائيلي، طويل الأنف، الذي في أغلب الحالات يكون مرتبكاً أمام حجارة الأطفال.
و سببت مواقف ناجي الكثير من المتاعب له ، لكنه لم يكن ليلين وكان يرى في رسم الكاريكاتير موقفاً سياسياً من القضية الفلسطينية، وموقفاً اجتماعياً من الحياة، و ظل فلسطينياً حاداً لا يقبل التراجع ولا الانحناء.
و شاركت رسوم العلي في عشرات المعارض العربية والدولية، و صدر له ثلاثة كتب في الأعوام (1976، 1983، 1985) ضمت مجموعة من رسوماته المختارة.
وكان يتهيأ لإصدار كتاب رابع لكن الرصاص الغادر حال دون ذلك، و حصلت أعمال ناجي العلي على الجوائز الأولى في معرضي الكاريكاتير للفنانين العرب أقيما في دمشق في سنتي 1979 و 1980م ، وحاز على عدة جوائز كبرى في معارض دولية وعربية.
و أقيمت لرسوماته عدة معارض قبل استشهاده وبعده، كما انتخب أميناً عاماً لاتحاد رسامي الكاريكاتير العربي إضافة إلى كونه عضواً مؤسسا في الاتحاد العام للفنانين التشكيليين الفلسطينيين وعضواً في الأمانة العامة للاتحاد العام للكتاب والصحفيين الفلسطينيين.
و لم يتوقف الاهتمام بناجي العلي بين قطاع واسع من المثقفين والفنانين العرب، بل وسجلت السينما العربية حياته في فيلم أثار الجدل حينها حيث جسد شخصيته الفنان المصري نور الشريف.
وبشرت أعمال ناجي العلي بالانتفاضة الفلسطينية الأولى التي ولدت بعد اغتياله بخمسة أشهر تقريباً، ففي الكثير من رسوماته يحتل الأطفال دور الجنود، والسلاح المقدس لديه هو الحجر رخيص الثمن المتوفر في كل لحظة والقادر على دكّ حصون المحتل.
و كانت رسوم ناجي العلي حزينة، لم تكن ساخرة، بل تحدثت عن آلام الناس ومواجعهم، وعندما لم تكن حزينة كانت جادة، تقول آراء ومواقف وتحدد بوصلة للحراك السياسي عبر مفارقات ذكية.
ومما لا شك فيه أن ناجي العلي استطاع أن يحفر اسمه في ذاكرة الأجيال العربية المتلاحقة، وما زال جرحه مفتوحاً في صدر محبيه ومتابعي رؤيته، وما زلت الأسئلة مفتوحة.
لكن يبقى السؤال الأبرز فيما لو بقي ناجي العلي إلى يومنا هذا، أكان يمكن أن يقول أكثر مما قاله عبر رسوماته وكلماته، أكان يمكن أن يزيد من حجم وعدد أوراقه ولوحاته لتضم كل هذه الفوضى والخراب؟.
تلفزيون الخبر