رغيف طازج يصل الماضي بالحاضر في فرن عمورة الأثري في طرطوس
خبز وحطب وحارة أثرية، ثلاثية ترسم صورة في الخيال تمزج رائحة الخبز برائحة الحطب وسحر المكان، وعلى الأرض نجدها على الجدار الشرقي في طرطوس القديمة، متجسدة في فرن “عمورة” الذي لايزال صلة وصل الماضي بالحاضر عبر رغيف خبز طازج.
يعتبر فرن عمورة في طرطوس أقدم الأفران التراثية القديمة التي تعمل على الحطب حتى يومنا هذا، ولا يزال محافظاً على شكله وأدواته القديمة منذ أكثر من 97 عاماً، حيث كانت الأفران قديماً تُشكّل ملتقى أهل الحي كما توفر لهم مصدر عيشهم، وفيها يطهون أصنافاً عدة من أطباقهم التقليدية، لتمتزج رائحة الخشب المحترق بنكهة الخبز الشهي.
مهارة عمرها أكثر من 60 عام، يمتلكها حسن عمورة صاحب الفرن، الذي يقول في إحدى لقاءاته إنه “ورث مهنة صناعة الخبز عن أبيه وجده منذ عام 1914، ولايزال يعمل بنفس الطريقة ويقدم نفس الخدمات من خبز مشروح وخبز تنور والمناقيش وغيرها”.
ويرفض الرجل السبعيني تحويل فرنه إلى العمل بالكهرباء أو الغاز، حفاظاً على خصوصية العمل التراثي في هذه المنشأة القديمة، كما يصف عمورة.
كان صاحب الفرن يجمع الحطب من الغابات المجاورة، وما يقوم الناس بقصه من أشجارهم خلال عملية التقليم استعداداً لخبز 300 كغ يوميا من الطحين، منتقياً أنواعاً معينة من الحطب، “منها البطم والسنديان والغار والريحان والزيتون فهي تعطي نكهة مميزة للخبز أثناء طهوه، لأن الزيوت العطرية التي تنبعث منها خلال حرقها تنكّه الخبز وتضفي عليه طعماً مميزاً” يتابع شارحاً.
وعن طريقة بناء هذا الفرن التراثي يقول عمورة إن “الفرن مبني من الحجارة البركانية السوداء، التي تتحمل درجات حرارة عالية، وتبقى لفترات زمنية طويلة جداً حيث كانت تبنى في الجهة الداخلية للفرن فوق بعضها بعضاً، وتملأ الفراغات فيما بينها بالكلس المطفى وتصل سماكة الجدار إلى حوالي المتر تقريباً ليحافظ على درجات الحرارة داخل الفرن”.
وتنطلق من وسط حجرة الفرن بيت النار مدخنة حجرية، لتعلو في السماء خارج الفرن، إضافة إلى أن الأرضية الخاصة ببيت النار مصنوعة من الزجاج المكسر مع الملح، ومغطاة بشكل نهائي بالحجارة للحفاظ على نظافة الحجرة.
تم حفر تجويف حجرته الحرارية ضمن جدار السور الأثري بجانب جامع “البلدية”، بطول حوالي المترين وعرض متر ونصف وارتفاع متفاوت، لأن سقفه على شكل قبة مسطحة.
ويتقدمه في الأمام مكان وقوف الخباز أو ما يسمى الجورة، وأمامه العصي الخشبية أو ما يسمى “السهام”، الخاصة بإدخال الخبز وإخراجه من الفرن، وعلى يمينه البلاطة مكان رق العجين يدوياً، وبمحاذاته على الجانب الآخر من البلاطة رَقَاق العجين الذي يجلس على الأرض ويدلي ساقيه في حفر صغيرة ليبقى مرتاحاً مقارنة مع فترات جلوس عمله الطويلة.
يقول أحد زبائن الفرن الدائمين “يعتبر فرن “عموره” بالنسبة لأبناء مدينة “طرطوس القديمة” وبقية أحيائها، فرنهم الخاص الذي يشوون فيه حلويات العيد ويطهون على حرارته المرتفعة معظم وجباتهم الغذائية وخاصة منها وجبة “السمكة الحرة”، وصناعة الفطائر”.
ويضيف “وهو ما يدفعنا لدعمه بالحطب والأخشاب التي تنتج عن تجديد وتحديث أثاثنا المنزلي، وما ينتج من تقليم الأشجار في بعض الحقول القريبة”.
ويتابع “فالخبز المشروح الذي يصنعه الفرن يتميز بنظافته من مختلف الشوائب التي يتعرض لها الخبز المشغول بالطرق الحديثة، فهو يدخل إلى حجرة النار المحفورة ضمن الصخر ويشوى بنار الحطب الطبيعي وأغصان السنديان والريحان والغار، فتضفي عليه نكهة مميزة يستسيغها كل من يتناول هذا الخبز”.
ويردف الزبون “بحكم قربنا من موقع الفرن وجيرتنا له نقصده في فصل الشتاء بعد الانتهاء من صناعة الخبز للحصول على جمر النار ضمن مواقع خاصة لزوم التدفئة من الطقس البارد”.
والفرن يقدم الخبز على نار الحطب الذي كان يتم جمعه سابقاً من مخلفات البحر من أخشاب السفن والمراكب، وبعدها من الطبيعة وغابات السنديان وشجيرات الغار والريحان، إضافة إلى مختلف أنواع الأخشاب البالية التي يقدمها أبناء المدينة من مخلفات أثاثهم المنزلي.
حيث يجلب أبناء المدينة إلى أمام الفرن بقايا خزائن الثياب والكراسي المكسرة والأبواب المخلعة، دون أي مقابل كرد جميل لهذا الفرن، وليبقى محافظاً على كيانه ، مع العلم أنه تعرض لبعض الانهيارات في سقفه الترابي قديماً، والاسمنتي بعد تحديثه منذ حوالي عدة عقود .
تذكر بعض المصادر المحلية أن الفرن أحدث في بداية الاحتلال التركي ليزود الجنود بالخبز، وفي عام 1842، كان الفرن مقصداً لأهل طرطوس ريفاً ومدينة، للتزود بالخبز الطازج ،و تعد رخصة هذا الفرن أقدم رخصة في سوريا حيث تعود إلى عام /1947/.
تلفزيون الخبر