العناوين الرئيسيةكي لا ننسى

“أبو الجلاء”.. 57 عاماً على رحيل الرئيس شكري القوتلي

ولد الرئيس شكري القوتلي في حي الشاغور يوم 21 تشرين الأول 1891 لأسرة دمشقية عريقة عمل رجالها بالتجارة والزراعة وعُرفوا بقاماتهم الطويلة وببنيتهم القوية لذلك لقبوا بالقوتلي.

 

ودَرس “القوتلي” القرآن الكريم بدمشق وتَعلم اللغة الفرنسية ونال الشهادة الثانوية من مدرسة “مكتب عنبر” وسافر إلى اسطنبول عام 1908 ليلتحق بالمعهد الشاهاني الملكي أرقى مدارس العاصمة العثمانية في حينها وتخرج منه عام 1913 حاملاً الشهادة العليا بالعلوم السياسية والإدراية.

 

عاد “القوتلي” إلى دمشق وعَمل موظفاً في مكتب الوالي العثماني، وانتسب سراً إلى الجمعية “العربية الفتاة” التي أنشئت في باريس على يد عدد من الطلاب العرب بهدف تحرير البلاد العربية من الحكم العثماني والنهوض بالأمة العربية.

 

وبايع الشريف حسين بن علي قائد الثورة العربية الكبرى ضد الدولة العثمانية عام 1916، وقام بنقل السلاح والمال إلى ثوار الحجاز فتم اعتقاله بأمر من جمال باشا.

 

وفي المُعتقل طَلب “القوتلي” من أحد الحراس إحضار شفرة صغيرة ضمن رغيف خبز وقام بقطع شرايين يده اليسرى في محاولة انتحار لكي لا يفشِ أسماء رفاقه في الحركة الوطنية فنُقل إلى المشفى حيث قضى خمسة وعشرين يوماً ليعاد فوراً إلى السجن حتى انتهاء الحرب العالمية الأولى وسقوط الاحتلال العثماني.

 

وبعد خروجه من السجن وفي حكومة الملك فيصل انضم “القوتلي” لحزب “الاستقلال العربي” المنادي بتحرير الأمة العربية من أي استعمار أجنبي وتوحيدها ضمن حدودها الجغرافية الطبيعية وبعد وقوع سوريا تحت سيطرة الاحتلال الفرنسي أصدر المندوب السامي الفرنسي هنري غورو قرار إعدام بحق “القوتلي” نظراً لنشاطه القومي المعروف ومعارضته للاحتلال فهرب إلى مصر وأقام في القاهرة كلاجئ سياسي.

 

وشارك “القوتلي” بتأسيس المؤتمر السوري الفلسطيني وهو أول مؤتمر معني بتوحيد جهود القوميين العرب ضد الاحتلال وضم وضم عدد كبير من أعلام الفكر والثقافة والسياسة في سوريا ولبنان والأردن والعراق وفلسطين.

 

وانقسم المؤتمر لاحقاً لجناحين أحدهما يتبع للملكة الهاشمية في الأردن والعراق، والٱخر الذي يضم “القوتلي” محسوب على السعودية التي كانت تُعظم من قدر “القوتلي” الذي أرسل عدداً من المستشارين السوريين للمساهمة في تأسيس المملكة العربية السعودية منهم الشيخ يوسف ياسين ابن مدينة اللاذقية الذي أصبح وزيراً لخارجية السعودية بعدها.

 

صدر عفو فرنسي عن “القوتلي” عام 1924 فعاد إلى دمشق ليلتحق بصفوف الثورة السورية الكُبرى ضد الاحتلال الفرنسي عام 1925.

 

وكان “القوتلي” من أبرز الداعمين الماليين للثوار، حيث باع أملاكه لشراء السلاح للثورة وقام بجلب للتبرعات من المغتربين السوريين ومن سعد باشا زغلول قائد الثورة المصرية قبل أن يتم حبسه مرة جديدة مع عدد من الوطنيين في أرواد ليتم بعدها نفيه خارج البلاد بعد صدور حكم إعدام جديد بحقه، ليتم العفو عنه في 1926 ويعود لدمشق ليؤسس مع رفاقه الكتلة الوطنية.

 

نشب خلاف سياسي بينه وبين جميل مردم بيك عام 1932 نتيجة مشاركة الأخير في حكومة حقي العظم المحسوبة على الاحتلال، وذلك دون التشاور مع مكتب الكتلة في دمشق.

 

أطلقت الكتلة الوطنية في 1935 إضراباً عاماً سمّي بالإضراب الستيني، ولعب شكري القوتلي دوراً محورياً فيه مُنسقاً وممولاً وقائداً ميدانياً.

 

وفي 20 كانون الثاني 1936 تم إغلاق مكتب الكتلة الوطنية في دمشق ووضع كل من شكري القوتلي ولطفي الحفار ونسيب البكري تحت الإقامة الجبرية كما تم نفي جميل مردم بك إلى شمال سوريا وطرد فارس الخوري من عمادة كلية الحقوق في جامعة دمشق.

 

وأدى الإضراب الستيني إلى استقالة حكومة تاج الدين الحسني المحسوبة على الفرنسيين، وتعيين رئيس وزراء جديد هو الوجيه الدمشقي عطا الأيوبي الذي قاد المفاوضات مع سلطة الانتداب في بيروت، أدت إلى إنهاء الإضراب وفتح المتاجر ودعوة وفد رفيع من زعماء الكتلة الوطنية إلى فرنسا للتفاوض على استقلال سوريا ومستقبلها السياسي.

 

توجه الوفد إلى باريس يوم 26 آذار 1936 وكان برئاسة هاشم الأتاسي وعضوية كلّ من سعد الله الجابري وفارس الخوري وجميل مردم بك، أما شكري القوتلي بقي في دمشق وعُيّن رئيساً للكتلة الوطنية في غياب هاشم الأتاسي مسؤولاً عن متابعة مجريات الانتفاضة التي انطلقت ذلك العام في فلسطين ومد بقيادة الفلسطينيين بالمال والسلاح.

 

توصل وفد الكتلة الوطنية إلى معاهدة تعطي سوريا استقلالها التدريجي فقدم رئيس الجمهورية محمّد علي العابد استقالته فاسحاً المجال أمام إجراء انتخابات نيابية ورئاسية مُبكرة.

 

حيث خاضت الكتلة الوطنية تلك الانتخابات وفاز شكري القوتلي بمقعد نيابي ممثلاً دمشق كما فاز هاشم الأتاسي برئاسة الجمهورية السورية وكُلّف جميل مردم بك بتشكيل الحكومة الوطنية الأولى التي عُيّن شكري القوتلي فيها وزيراً للدفاع والمالية.

 

رفض البرلمان الفرنسي التصديق على معاهدة عام 1936 بالرغم من تبنيها بالإجماع داخل البرلمان السوري بحجة عدم استطاعة باريس التخلي عن نفوذها ومستعمراتها في الشرق الأوسط في ظلّ تنامي احتمال نشوب حرب عالمية جديدة.

 

وسقط عهد الكتلة الوطنية في صيف عام 1939 بعد فشلها في تمرير المعاهدة وفي الحفاظ على لواء إسكندرون الذي تم ضمه إلى تركيا وكان ذلك قبل أشهر قليلة من اندلاع الحرب العالمية الثانية في أوروبا.

 

وأُشيع يومها أن شكري القوتلي كان مؤيداً لألمانيا النازية نظراً لكرهه الشديد لسياسات فرنسا الاستعمارية في الشرق الأوسط واجتمع مع عدد من الشخصيات النازية بدمشق مما أدى إلى نفيه مجدداً خارج البلاد.

 

وفي حزيران 1941 دخلت قوات الحلفاء إلى سوريا لتحريرها من الحكم النازي وتبعها الجنرال ديغول الذي أعلن استقلال سوريا في أيلول 1941 لكسب ود السوريين وحثهم على دعم مقاومته لألمانيا النازية.

 

ولكنه رفض انسحاب الجيش الفرنسي منها حتى انتهاء الحرب في أوروبا وعرض على هاشم الأتاسي العودة إلى الحكم الذي رفض، فتم تعين تاج الدين الحسيني رئيساً للبلاد، لكنه توفي عام 1943، وأُعلن عن إجراء انتخابات رئاسية مبكرة ذلك الصيف، إذ قرر شكري القوتلي خوضها ممثلاً عن الكتلة الوطنية.

 

وألقى شكري القوتلي خطاب القسم يوم 17 آب 1943 ليصبح رابع رئيس للجمهورية السورية، وبعد ثمانية أيام فقط من اعتلائه سدة الرئاسة أرسل بالاتفاق مع رئيس الجمهورية اللبنانية وثيقة مكتوبة إلى الممثلية الفرنسية للمطالبة بتفعيل الاستقلال غير أن الممثلية الفرنسية بعد اجتماع استثنائي عُقد مع شارل ديغول في الجزائر رفضت الاقتراح.

 

وقام “القوتلي” بإيفاد رئيس الوزراء سعد الله الجابري ووزير الخارجية جميل مردم بك إلى مصر بناءً على دعوة النحاس باشا لعقد اجتماع عربي مشترك كان من الخطوات التمهيدية لقيام الجامعة العربية.

 

وحرص “القوتلي” على فتح قنوات دولية للترويج لقضية استقلال سوريا وجلاء كافة الجيوش الأجنبية عن أراضيها، وأوفد وزير خارجيته جميل مردم بك إلى الكويت ومصر والعراق للحصول على دعم من قادة تلك الدول العربية.

 

كما بعث برسائل مماثلة إلى رؤساء أمريكا والاتحاد السوفيتي والصين وتوجه إلى القاهرة لعقد اجتماع قمة مع زعماء الولايات المتحدة وبريطانيا تم بدعوة من الملك فاروق.

 

في هذا اللقاء طلب الزعيم البريطاني تشرشل من “القوتلي” عقد معاهدة مع فرنسا فرد “لن أعترف بفرنسا…ولن أمد لها يدي ولن أتفق معها مهما كانت الأسباب والظروف والله ثم والله لن أرتكب هذه الجريمة بحق وطني ولن أرضخ لأي ضغط ولو أصبحت مياه البحر حمراء قانية”.

 

وأجابه “تشرشل”: “قُلت لك إن لفرنسا مصالح في بلادكم فاعملوا معها معاهدة ثقافية وأنا كفيلها بكل ما تطلبون”، فأجابه “القوتلي” أن “ليس لها أملاك سوى دار واحدة في الصالحية بمنطقة الجسر الأبيض، وأنا مستعد أن أشتريها منها وأسكنها لأني لا أملك داراً للسكن في دمشق بعد أن أحرقت فرنسا داري ودار أجدادي وآبائي كما دمّرت الحي الدمشقي بأكمله الذي كان بيتنا فيه”.

 

وفي عهده تمت دعوة سوريا للانضمام رسمياً إلى منظمة الأمم المتحدة التي بدأت أعمالها في مدينة سان فرانسيسكو الأميركية في أيار 1945.

 

في 19 أيار 1945 عقدت قمة سورية لبنانية في بلدة شتورة قرر خلالها الرئيس “القوتلي” ونظيره اللبناني بشارة الخوري تجميد كافة المفاوضات مع الحكومة الفرنسية مطالبين بتحديد فترة زمنية واضحة لجلاء قواتهم عن سوريا ولبنان.

 

وردّت فرنسا بإرسال تعزيزات عسكرية إلى شواطئ بيروت ونقلها فوراً إلى دمشق حيث نصبوا الحواجز والمتاريس وشنوا عدوان 29 ٱيار لتخوض سوريا بعدها مفاوضات شاقة حتى إعلان الاستقلال في 17 نيسان 1946.

 

بعد ذلك انتهت ولاية “القوتلي” ليتم تعديل الدستور والسماح له بالترشح للانتخابات الرئاسية مرة أُخرى لتتم إعادة انتخابه لولاية رئاسية ثانية تنتهي عام 1951.

 

وبعد وقوع نكبة فلسطين قام حسني الزعيم بالانقلاب على “القوتلي” وحبسه بسجن المزة وصودرت أملاكه وسُمح له مغادرة البلاد إلى منفى اختياري فتوجه مع أفراد أسرته بداية إلى سويسرا ثمّ إلى مصر.

 

وقرر “القوتلي” العودة إلى سوريا ووصل مطار دمشق يوم 7 آب 1954 ليعلن ترشحه لرئاسة الجمهورية وفي 5 أيلول 1955 ألقى شكري القوتلي القسم الرئاسي للمرة الثانية في حياته.

 

وتوطدت العلاقات خلال الفترة الثانية مع مصر خصوصاً بعد العدوان الثلاثي عليها وفي يوم 11 كانون الثاني 1958 توجه وفد من الضباط السوريين إلى مصر للمطالبة بتوحيد سوريا ومصر تحت راية الرئيس جمال عبد الناصر الذي رفض ذلك إلا بقبول “القوتلي” ما دفع الأخير لإرسال وزير خارجية سوريا للتفاوض حول الوحدة.

 

وسافر “القوتلي” إلى مصر للتوقيع على ميثاق الوحدة السورية المصرية في شباط 1958 بعد أخذ موافقة مجلس النواب وتنازل طوعياً عن رئاسة الجمهورية العربية المتحدة لصالح الرئيس عبد الناصر الذي كرّمه بلقب “المواطن العربي الأول” وقال إنه “الوجه العربي المشرق لسوريا”.

 

بعد الوحدة وقعت الكثير من الخلافات بين “القوتلي” وجمال عبد الناصر نتيجة قرارته الخاطئة بحق سوريا، وقال له “أخاف على الوحدة التي صنعناها معاً يا أبا خالد أخاف عليها من هذه القرارات الارتجالية وغير المدروسة”.

 

وبعد أسابيع من وقوع الإنفصال الذي أطاح بجمهورية الوحدة يوم 28 أيلول 1961، أطل الرئيس “القوتلي” على شاشة التلفزيون السورية من سويسرا، حيث كان يتلقى العلاج في خطاب متلفز كان الأول والأخير له شنّ من خلاله هجوماً عنيفاً على الوحدة والتجاوزات المصرية التي تخللتها وطالبه ضباط الانفصال بالترشح لرئاسة سوريا لكنه رفض.

 

يذكر أنه في يوم 30 حزيران 1967 توفي شكري القوتلي في بيروت عن عمر ناهز 75 عاماً، إثر تعرضه لذبحة قلبية عند سماعه نبأ سقوط هضبة الجولان في يد الكيان وأُعيد جثمانه إلى دمشق مجللاً بالعلم السوري ودفن فيها.

 

جعفر مشهدية-تلفزيون الخبر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى