“أم رهاف” سيدة حمصية بدأت بماكينة الخياطة وانتهت بمشروعها الشامل
“كفي أن تمشي مرة واحدة في أحد شوارع حي السبيل قرب دوار العباسية بمدينة حمص، كي تقودك حاسة شمّك لا قدميك للمشي مراتٍ عدة بجانب أحد المحال التي تديرها السيدة ندى صُبح وكما تحب مناداتها بأم رهاف.
ستغمض عينيك حتماً مجرد فتحك للباب مع سحبك لنفسٍ عميق يدخل صدرك ممزوجاً بأطيب الروائح، كالحالة نفسها التي تصيبك عندما تشم رائحة طبختك المفضلة لحظة دخولك المنزل.
طبخات من نوع آخر
إلا أن طبخات السيدة الخمسينية تختلف قليلاً، كونها تحضّر وتبيع معطرات الجو والصابون بأنواعه المختلفة إضافة لعشرات الأصناف من مختلف اللوازم المنزلية.
متوارية بين الرفوف الممتلئة، ترحب بنا أم رهاف ليبدو صوتها بعيدا ً حتى تظنها في غرفة مجاورة، إلا أنها ظهرت حاملةً أكياساً كبيرة من الثياب المطلوب إصلاحها للزبائن المحبين لتفانيها بالعمل ودقة موعد تسليمها.
“أهلا ياخالتو..تفضل”، يستقبلك صوتها قبل وجهها عندما تطرق الباب، وحقيقة الأمر فإن ملامح أم رهاف المريحة للناظرين التي لا تغادرها الإبتسامة أصغر بكثير من أن تكون خالة، خصوصاً بعد دردشة قصيرة تحكي فيها عن عملها المضني خلال سنوات عجاف مرت عليها.
البداية من الصفر
تستأذن انشغالها بضع دقائق، طالبةً منا الإستراحة على مقعد خشبي يسمى (دشك)، ريثما تنتهي من ترتيب بعض أنواع المحارم الورقية، وبالطبع فقد كانت دقائق (أحلى على قلبنا) مع روائح الديفا واللافيندر والفريز وغيرها من أنواع المعطرات السائلة.
“كلشي شايفو بلش من هون”، تمشي أم رهاف عدة خطوات وترفع بعض الثياب عن ماكينة خياطة بيضاء رافقتتا لسنوات طويلة دون أن تفترقا، بل كانت المعيلَ لها ولأسرتها عندما تقطعت بهم السبل.
تقول أم رهاف لتلفزيون الخبر “تعود صداقتي مع ماكينة الخياطة لأكثر من 20 عاماً، عندما تعرضت لظروف عائلة غاية في الصعوبة، لأجد نفسي وحيدة مع ثلاثة أطفال وقعت مسؤولية تربيتهم على عاتقي”.
بزفيرٍ مترافق مع لحظة سكون، تتبدل ملامح أم رهاف إلى مرحلة أكثر جدية، وتضيف بالعامية :كان برقبتي “أكوام لحم، لذلك عملت بدايةً في مختلف المحال كي أؤمن لقمة العيش رغم التعب الجسدي الكبير”.
وتابعت “بقيت أعمل عدة سنوات حتى استطعت تأمين مبلغ كافٍ لشراء ماكينة الخياطة هذه، لأبدأ تعلّم المهنة حتى أتقنتها بشكل كامل، وباتت ترافقني في كل المحال التي استأجرتها لاحقاً”.
رغم التوسع..تبقى للماكينة مكانتها
بفخرٍ كبير بادٍ على وجهها وهي ترمق وتعدد الأصناف التي تبيعها، تتحدث أم رهاف لتلفزيون الخبر عن تطوير مشروعها الذي بدأ من الصفر، قائلة “اقتصر الأمر بدايةً على كميات صغيرة جداً من مواد التنظيف وحفاضات الأطفال إلا أنني اتبعت سياسة توسيع المجالات وتنويعها”.
تتابع حديثها وهي تمشي قرب كل صنف موجود على الرفوف :”صابون زيت، غار، عسكري، مغاسل، جيت، سائل جلي، معطرات، ملطف جو، حفاضات أطفال، محارم، ورق، أكياس نايلون، جوارب”.
وينتهي النفس الأول خلال التعداد الطويل، لتنطلق مجدداً في حديثها وتقول “إلا أنه ورغم مختلف الأصناف التي بتّ أبيعها لم ولن افرط بماكينة الخياطة التي أبقي مكاناً لها أينما تنقلت في المحال كوني لم أستطع شراء واحد بعد”.
“الفقر ما بيتعدى على حدا”
تهز برأسها يمينا ويساراً، رافضة الأقوال الشعبية عن عدم جواز عمل المرأة لمجرد أنها امرأة، فالفقر لا يعتدي على أي شخص إلا إذا كان نفسه مستسلماً جالساً في مكانه دون أن يتحرك ويعمل، كما تقول أم رهاف.
وتضيف “من المستغرب ما نسمعه أن تفكير المرأة يجب ألا يتجاوز موضوع الزواج والمنزل، فهل يضمن الزواج السترة الدائمة كما يقولون، وهل كل امرأة متزوجة تشعر بالسعادة والكرامة، انظروا إلى حالات الطلاق التي باتت لا تعد ولا تحصى”.
لقمة العيش فقط
تقبّل أم رهاف كف يدها وتضع على جبينها كدلالة على شكر النعمة التي تعيشها، قائلة “ما بدي تاجر ولا جمع ملايين، بدنا اللقمة الحلال وبس”، وكل ما أريده هو رؤية أولادي بخير بعد أن كبروا وتزوجوا وأصبحوا آباء وأمهات”.
وتصل قبلات أم رهاف إلى شاشة جوالها لترينا صورة حفيدتها (إيفا) وتضيف “رغم أن أولادي كبروا وأصبح لكل منهم حياته الخاصة، إلا أنني اجمعهم أسبوعياً يوم الجمعة لنقضي يومنا سوية وننسى هموم الحياة اليومية”.
“إلك كيانك وشخصيتك” تتوجه أم رهاف بنصيحة للنساء بشكل خاص، بأن العمل هو سلاحك الفعال في الحياة، عندما لا تجدين من يساعدك سيكون عملك هو سندك وقوتك بوجه كل الظروف”.
لنستأذن بعدها الإنصراف قبل أن تستعجل بإغلاق الباب في وجهنا، “لا والله بدي عبيلكن شوي من شغلي هدية لا تخجلوني”، لنقبل هدية أم رهاف بكل تقدير ونغادر مع رائحة الغار التي تلاحقنا في أرجاء الحي.
عمار ابراهيم_ تلفزيون الخبر_ حمص