عن والدي المهووس بكرة القدم!
لطالما يتغنى الكثيرون بأصوات تربوا عليها، كبروا، حتى شكلت لديهم هوية رافقتهم طيلة حياتهم، فترى من يخبرك عن ذكرياته في صباحات المدرسة، حين كان يستقيظ على صوت فيروز، كل يوم دون كلل أو ملل، وآخر، حفظ عن ظهر قلب عشرات الأغاني لحليم، منذ طفولته، والتي لقنه إياها أحد أبويه.
أما أنا، رافقتني ولا تزال، أصوات حفيظ دراجي، ورؤوف خليف، ويوسف سيف، وغيرهم من أشهر المعلقين العرب على بطولات كرة القدم.
وبالرغم من أن أسرتي تخلو من الأشقاء الذكور، وغزاها “الجنس اللطيف” سواء من سكان البيت أو من زواره، لكن هوس والدي بكرة القدم كوّن لدى ابنتيه معرفة لا بأس بها بهذه الرياضة، والتي لم تغب عن ناظرينا حتى في أحلك الأيام التي مرت فوق رؤوسنا.
وإن عدنا بالزمن إلى الخلف قليلاً، إلى آخر عشرين سنة مثلاً، واكب والدي كل أشكال نقل المباريات العالمية عبر شاشة التلفزيون، بداية من “الدش”، إلى جهاز السفر بين الأقمار الصناعية، حتى تابعنا كرة القدم مع التعليق التركي، والإسباني، ومن الممكن الصيني، من يدري؟
ثم ظهر “كرت الجزيرة الرياضية” وجهاز الاستقبال الخاص فيه، ومن بعده “الدينغل”، لنعود في سنوات الحرب إلى “الانطين” والقناة الرياضية الأرضية، وصولاً للاشتراك الشهري عن طريق الانترنت.
وحتماً، أصر على توصيل شاشة التلفزيون وما يتبعها من أجهزة، إلى الحلول البديلة للكهرباء التي اختار أفضلها حتى لا تضيع منه أي مباراة، واضطر مع ازدياد ساعات التقنين الكهربائي لاستنفاد آخر أنفاس الشحن فيها، مقابل متابعة ضربة جزاء، أو رمية هامة.
وحين أصف ما يمر به والدي “بالهوس”، فلأسباب كثيرة، حيث أنه ليس بمشجع “منطقي” لأحد النوادي الشهيرة، والتي لها في بلادي الكثير والكثير من الأتباع، ولا لأنه يسهر حتى تبدأ إحدى مبارايات كأس العالم في توقيتنا فجراً، بل لكونه يتابع كل بطولات كرة القدم.
نعم كلها، من الدوري والكأس الإسبانيين، إلى الإيطالي، والانكليزي، والألماني، والروسي، والخليجي، والأفريقي، وكأس العالم، وأبطال أوروبا، وكوبا أمريكا، ويستثنى الدوري المحلي، منذ أن غدا لعبة “قيل وقال”، و”مهاترات مستمرة”، على الرغم من أنها كانت جزءاً من تكوينه، حتى أنه روى لي حكاية سفره من محافظة لأخرى في سنين طفولته، وأنفق خلالها الليرات القليلة التي كانت بحوزته بغرض متابعة مباراة واحدة.
ليس هذا وحسب، بل من يرصد ردات فعل والدي الستيني، وهو يتابع بنظرة جدية هذه المباريات، يلحظ انفعالات تتحول من الكلام، إلى التوجيه، ثم الحركة وتعليم اتجاهات التسديد للاعب “عم يخبص”، ويلحقها بمقارنة مع ما يقوله المحللون في الاستديو التحليلي أيضاً، فهو ليس من النوع الذي يغير القناة إلا بعد التأكد من تغطية المباراة من كل جانب.
ولأن هذا البيت لم يقدر له أن يربى فيه أبناء صبية، فكنا أنا وشقيقتي المشاركين الأوائل لهذه المتعة، فعرفنا مصطلحات “الفاول” و”حكم التماس”، وبالتأكيد أسماء اللاعبين والمدربين وتنقلاتهم، وتصنيفهم ما بين لاعب خشن وآخر نظيف، وما هي مباراة “الديربي”، و”الكلاسيكو”.
عدا عن حساب النقاط، ومباريات الذهاب الملحوقة بالإياب، والاختصارات الخاصة بأسماء الأندية، ومن يلعب يميناً ويساراً، ومتى يغير النادي ألوان لباسه، وأصابتني هجمات أدرينالين قوية، حين تضيع هجمة مرتدة لفريق نرغب بفوزه، لكنني فشلت في فهم “الأوفسايد”، حتى عجز عن شرحه لي للمرة الألف أو أكثر!.
قاطع والدي نشرات الأخبار (المختلف والمتفق عليها) منذ عام 2014 نهائياً، بالرغم من سخونة أحداثها، ونقل ضغوطاتها النفسية البشعة التي أصابت معظم قاطني هذه البقعة الجغرافية، إلى شكل آخر، فكانت كرة القدم هي البديل الأفضل والأكثر سلاماً من الخيار الأول.
ومع احتكاره اليومي لشاشة التلفزيون الوحيدة في المنزل، لا أذكر أنني اعترضت على المباريات التي لا تنتهي، بل للحقيقة لا تزال تلفت نظري كلما مررت وشاهدتها، ولا أفهم من ينتقد صورة مشجعي كرة القدم، والمهووسيين بها، فلربما تشربت سحرها من المشجع الأول أمامي.
ودون أدنى شك، فإن هوس والدي لا يقتصر على التشجيع وحسب، بل ينتقل لكل المناسبات الاجتماعية، فلا يمكن لأي ضيف دخل إلى منزلنا، إلا أن يناقشه في كرة القدم، حتى أولئك الجاهلين فيها، ذكوراً وإناثاً، لم يفلتوا ويشفع لهم، بل كم من مرة جلسوا وتفرجوا على مباراة ما حتى تأثروا بحالة الشد، والترقب على مدار 90 دقيقة.
وكنتيجة حتمية، فقد برمج مواعيده وحياته على حسب أهمية المبارايات التي ستعرض، فمثلاً تحظر الارتباطات العائلية في ليالي السبت العظيمة والمعروفة لمشجعي كرة القدم، أو يشترط علينا أن نعود من مشوار ما قبل بداية الدقيقة الأولى للعبة مصيرية.
ولا أدري حقيقة كيف وافق على مصاهرة رجل يخالف توجهاته الرياضية، بل مع مرور السنوات على زواج شقيقتي إلا أن قضايا كرة القدم، تتصدر قائمة الروابط الوثيقة بين الرجلين، ومناوشاتهما حولها، لكن للمباركة دوماً الأولوية بعيداً عن الشماتة بالخسارة وتصعيد النقاش.
ابتسم في سري بكل لحظة يلامسني شغفه وهوسه الجميل بالنسبة لي، واعترف أنني أدعو الله في قلبي أن يفوز فريقه المفضل دوماً، ليس حباً بهم، ولا لشغف انتابني في سنوات المراهقة، بل لتسعدني ابتسامته وفرحته التي توازي فخره بنجاح ما أحققه، ولأضمن سماعي لقصة “الغول” الذي حسم اللعبة، ويعيدها لي لأيام وأيام، ولأنني أخشى عليه من “زعل” لا يعترف به تسببه كرة ولاعبين لم يعرفوا مشجعاً وفياً ومحباً مثل أبي!.
لين هشام السعدي – تلفزيون الخبر