“وينتر از هير” .. حين يُحزن الشتاء قلوب الأمهات السوريات
“وينتر از هير” ليست ترينداً لطيفاً هذا العام في بيوت السوريين، ولم تعد ترجع بالذاكرة للمسلسل الشهير “غيم اوف ثرونز”. هي اليوم عبارة تثير الحزن في البيوت وتعيد تذكير الأمهات أن البرد قادم ليقاسم الأبناء ليالي العتم الطويل.
تحاول الأمهات السوريات لملمة ما بقي من طقوس تحضيرات الشتاء، التي بدأت تُختصر وتتناقص مع طول سنوات الحرب، حتى لم يبق منها إلا ما ندر.
وبعيداً عن المونة التي قضى التقشف وتغير الحال على معظم تفاصيلها وشوّه لذتها على مر سنوات الحرب والفقد والجوع، تزامناً وبدء العام الدراسي، يبقى لدخول فصل الشتاء نكهته المختلفة التي تحمل اليوم طعماً مراً لم تحمله أقسى سنوات الحرب سابقاً.
المرأة السورية التي احتضنت تفاصيل الحياة وقاومت الموت معلنة ولادة سورية جديدة في كل يوم، وأبدعت في ابتكار حلول تلتف بها على كل ما ينقص ويستجد مع تطور معطيات الحرب وآثارها.
وكعادة الأم السورية الأصيلة تتجاهل معظم مشكلاتنا على أمل أن تؤثر بها عوامل الحت والتعرية وتذيبها، تحاول السوريات الآن تأخير الشتاء بالأمل بانتظار فرجٍ ما، لا يعلم أحد أين ومتى قد تهل بشائره.
تنشر السوريات اليوم تحت شمس الخريف ما بقي من سجادهن إن وُجد، وتخبئ كثيرات منهن كمشة أو كمشتان من العدس وأرغفة خبزٍ يابس مجهز للقلي، ولا زيت له في خزائن مطابخهن، بانتظار المطر الأول حفاظاً على طقس سوري عريق طالما جمع الأسرة في صورة بدأت عناصر ألوانها تتناقص وتبهت.
لم تعد “لمّة” العيلة كما كانت، وملح الليمون لن ينكه عدس مطرنا الأول كما يفترض بالليمون الحامض أن يفعل. تُمارس السوريات طقس إخراج اللباس الشتوي وضبضبة الصيفي كما يفعلن كل عام كفعل روتيني يحافظ على صورتهن كأمهات، وربات منزل جيدات،نظيفات مرتبات رغم البدائل الرخيصة ومنزلية الصنع التي استعضن بها عما اعتدن عليه في “”سنوات الرخاء”.
خلت أسطح وشرفات منازل الكثير من السوريات هذا العام من سجادهن واكتفين بالأغطية الشتوية، أم رنيم، ستينية وأم لثلاث شابّات تزوّجن بعيداً عنها على حد تعبيرها، تقول لتلفزيون الخبر “لمن سأفرش السجاد! أنا وأبو رنيم منسمّك ومندفا هيك هيك من سنتين ما ركبنا صوبيا البنات كبروا وطاروا ما بقا في داعي للسجاد”.
وعن أحفادها تقول الخالة أم رنيم أن لها حفيدتان وحفيد يقيمون كلهم خارج البلاد كانوا في زيارتها الصيف الماضي، وعن طنجرة العدس تقول “كمشة عدسة وكمشة رز بيكفونا وبتزيد”.
أم محمد (أربعينية لديها طفلان في العاشرة وفي التاسعة من عمرهما) تقول لتلفزيون الخبر وهي تقلب بين يديها أحذية شتوية من سلة كبيرة للبالة في سوق شعبي بمدينة اللاذقية “يكبرون بسرعة في هذه الأعمار ومن الصعب إرضاء رغباتهم بسهولة، الأسعار غالية جداً كيف ل ١٥٠ الف ليرة أن تكفي عائلة كسوة الشتاء؟”.
وتتابع”منذ بداية الأزمة قررنا ألا ننجب طفلاً ثالثاً كنا نتمنى أن ننجب بنتا نتسلى بها بعد ان يكبر الولدان، بداية أجلنا الأمر حتى تنتهي المشاكل ثم اجلناه حتى تفرج القصص، ثم لغيناه تماماً لم يعد بمقدورنا تأمين حياة جيدة لهم وباتت الحياة أكثر صعوبة”.
تشاركنا أم محمد أفكارها وتقول وهي في طريق خروجها من السوق المسقوف بزواريبه الكثيرة باتجاه سوق ساحة اوغاريت أنها ستشتري لابنيها أحذية جديدة رديئة، أفضل بحسب قولها من بالة أكثر جودة وتفوقها سعراً، وتؤكد انها تحاول اغتنام صفقة رابحة توفر لها بضعة آلاف وتسمح لها باستباق الوقت قبل أن تنزل البضاعة الشتوية “بأسعارها السياحية”.
“معظم ما في المحلات اليوم أحذية قماشية لن تصمد مع أول مطرة أحاول أن أجد أحذية متينة تصمد تحت أقدامهم وتحت خيرات السماء، وشوارعنا كما ترين تحتاج جزمات فلاحة في الصيف فما بالك بالشتاء والميزانية لا تسمح بتعدد الخيارات”.
في سوق أوغاريت فارقتنا أم محمد بعد أن قالت انها لن تستعجل في شراء شيء “أخذت فكرة وستعود في وقت لاحق”. حالها بذلك حال أمهات كثيرات يأخذن فكرة في محلات السوق بحثاً عن حذاء مناسب تشمله تخفيضات الصيف ويصلح للاستخدام شتاءً.
في أحد محلات الخياطة في “زاروبة تتفرع عن شارع ٨ آذار” تقبع أكوام من الملابس القادمة بأكياس حملتها أمهات بعناية لتعيد تأهيلها وتقديمها لأفراد الأسرة على أنها كسوة الشتاء القادم، يقول الخياط الذي فضل عدم ذكر اسمه أن كثيرات يحضرن له ملابس شتوية مستعملة (بعضها بالات وبعضها يعود لابناء او أقارب أكبر) ويطلبن تعديلات بعضها يصنفه تحت بند التصليحات وبعضها تحت بند تغيير المواصفات الجوهرية.
“ليس التقصير والتضييق وتبديل السحاب والزر هو أكثر ما يطلب اليوم، بعضهن يطلبن توسيع أشياء لم يكن يطلب منا سابقا توسيعها، كيف سنوسع بنطال جينز لعمر ٧ سنوات ليلبس تسعة! يمكننا ذلك ونفعله لكن كثرت مؤخراً إعداد الامهات التي تطلب توسيع ملابس أبنائها لتناسبهم لعام جديد، إضافة لبعض الترقيع والإضافات الجمالية التي قد تجعلها تبدو جديدة لطفل صغير، لدي قطع هنا وسعتها في العام الماضي وأضيقها اليوم لتلبس الأخ الأصغر”.
تلملم الأمهات السوريات بقايا صورة العائلة بطقوسها وتفاصيلها كما لملمن جراح البلد سنوات طويلة ثقيلة، يقفن اليوم على عتبة الشتاء آملات ألا يحمل برداً “قارصاً” لأجساد أطفالهن ولا غزير الخير فيبلل محاولات الدفء التي تحيكها وتدبرها سوريات تعبن من التأقلم واجتراح الحلول وترقيع الواقع المعاش.
“وينتر از هير” تحمل اليوم للأمهات السوريات خوفاً وقلقاً من سقوط الغطاء الأخير الذي يدفئ ما لن يدفئه “مازوت الذكية” ولا زيتها المفقود ولا سكرها الضائع ولا حطب البلاد الذي يرتفع سعره كل يوم.
تخشى السوريات اليوم النظر في عيون أولادهن، كما دائماً، يضعن الأكل ويدعين الشبع، يخترعن مشاغل كثيرة، يخبئن رؤوسهن تحت الأغطية صيفاً، داعيات الله ليستجيب ويأتي الشتاء لطيفا ً لا يحرجهن أكثر، فيخبرن أبناءهن مجدداً أن “ماما تحل كل المشكلات” وأن “كل شيء سيكون على ما يرام”.
فرح يوسف – تلفزيون الخبر