“خالد محمد الزين”.. دار الألحان الطرطوسية
غالباً ما تُدهِشُنا الأشياءُ التي رسم الزمانُ تجاعيدَها، نلمس من خلالها ماضياً خَفِيَ عنّا، فندخل إليه كما لو أنّنا عشنا فيه، فتأخذُنا حالةٌ سحريةٌ إلى عوالمَ تنبض بالجمال، ليتدفّقَ شلّالٌ من الحنين إلى النقاء والفنّ والسحر.
“خالد محمد الزين” تحفظه أحياءُ طرطوسَ العتيقة، يذكره البحرُ كلّما جُنّ الليلُ، يتداخلُ في محلّه الصغير الماضي بالحاضر، ويعانق السحرُ مفردات اللغة الحسناء، فيُطِلّ عليك صوتُ فريد الأطرش من جوف الجدار، ويهمس محمد عبد الوهاب بنهره الخالد في أذن المكان.
للزمان رائحته المميزة، هنا في محلّ العمّ خالد المعروف بأبي ناصر تختلط المشاعر، وتتداخل معطياتُ الحواس، فتسمع بعينك، وترى بحاسّة الشّمّ التي ستستيقظ على كلّ ما هو جميلٌ لمجرّد ولوجك داخل المحلّ.. رحل العمّ أبو ناصر وبقي الماضي شابّاً يتمشّى في أروقة المحلّ الضيقة فتبدو متّسعةً اتّساع الجمال المنثور في الكون.
يقول ابن الفقيد (أبو ناصر) ظافر خالد الزين لتلفزيون الخبر: “بدأت هواية والدي بشراء أسطوانات الأغاني وحفلات فناني الزمن الجميل وجمعها في خمسينيات القرن الماضي حيث كان لديه محلٌّ اسمه (سفينة نوح) عند دوار الساعة في مدينة طرطوس، وكان يحوي بداخله راديو بطول متر لسماع كلّ ما يتعلق بالأغاني الجديدة وآخر أخبارها”.
ويتابع ظافر: “بعد عام 1961 اشترى والدي قهوة الشاطئ الأزرق التي كانت تقع مكان مطعم سكاي روز حالياً في المدينة وخصّص غرفة ضمن المقهى لممارسة هوايته، حيث كان يقوم بشراء الأسطوانات وشرائط البَكَر، حينها لم يكن شريط الكاسيت قد اختُرِعَ بعد”.
وذكر الزين أن “والده حينها كان يملك أجهزة البيك أب (مشغل الأسطوانات) ولديه أيضاً جهاز البَكَر حيث يقوم بتسجيل الأسطوانة على شريط البكر، ويُنشِئ مجموعة من الأغاني بحسب اختياره”.
وأكمل الزين “ويأتي رفاقه وأصحابه إليه لكي يستمعوا إلى الأسطوانات التي يختارها ويشتروها، منذ تلك الأيام وهو يملك سمعة طيبة ومميّزة في عمله وذوقه الرفيع في اختيار الأغاني والحفلات”.
وأشار الزين إلى أنه “منذ بداية السبعينيّات قام والده بافتتاح محل (دار الألحان) في شارع هنانو بمدينة طرطوس، وهنا بدأ تعلُّقه بشريط الكاسيت بعد أن تمّ اختراعه وانتشاره”.
يقول ظافر: “في ذلك الوقت كان أوج شريط الكاسيت وكان الناس حينها متعطّشين لسماع أغنية، ولا سبيل لذلك سوى التلفاز وكان عبارة عن محطتين فقط، وإن عُرضت أغاني عليه فقد كانت تقتصر على مدّة زمنية قصيرة”.
وأردف ابن الفقيد (أبو ناصر) أن “الأسطوانات حينها كانت باهظة الثمن ولم يكن بإمكان كل الناس أن يمتلكوها، حتى الراديو وأجهزة البيك أب (قارئ الأسطوانات) كذلك الأمر”.
وأضاف الزين أن “أي شريط كاسيت أو أسطوانة جديدة تُطرح في الأسواق كان يأتي بها والدي وبشكل فوري، حتى إنه في عدة مرات طُرحت أسطوانات أغاني لفريد الأطرش في بيروت، كان يقوم بالسفر إليها لجلبها، علماً أن الفنان الأطرش هو المطرب المفضل عند والدي”.
وعن هوايات (أبو ناصر) يقول ابنه ظافر إن “والدي كان السبّاق بحضور الأفلام والحفلات لفناني الزمن الجميل التي كانت تقام بلبنان وسوريا، حيث إنه ولأكثر من مرّة كان يسافر إلى بيروت لحضور أفلام فريد الأطرش في دور السينما هناك”.
وتابع الزين: “كما أنه في بداية السبعينيّات حضر حفلة فريد الأطرش بالعباسيين في دمشق وغنى حينها أغنيته الشهيرة أول همسة، بالإضافة لحضوره حفلة المعرض بدمشق للفنان عبد الحليم حافظ، وحفلات وديع الصافي وصباح فخري وفؤاد غازي في المنشية بمدينة طرطوس”.
وأضاف الزين أن “كل الفنانين العظماء من محمد عبد الوهاب وأم كلثوم وفريد الأطرش وكارم محمود ووديع الصافي وفيروز…، لهم نصيب عند والدي من أغاني وحفلات مؤرشفة”.
وذكر الزين أن “محل دار الألحان حاز على شهرة واسعة في المجتمع الطرطوسي، ونادراً ما نرى المحل خالياً من روّاده ومحبّيه”، مضيفاً أنه “كان مصدر إلهام للكثير من الموسيقيين في المحافظة، حيث إن أي شخص ينقصه أغنية أو يريد التدرب على أغنية يأتي إلى دار الألحان لما يتمتع به من أرشيف ضخم جداً ومميز”.
وأردف الزين أنه “في سبعينيّات القرن الماضي زارت والدي المطربة الشهيرة سعاد محمد في محله، وذلك للقاء الكاتب والملحّن محمود الحاج صاحب أغنية معروفة (حلوة طرطوس) والذي كان يملك الكثير من الأغاني الجميلة أيضاً”.
وأشار الزين إلى أن “والده الراحل (أبو ناصر) كان مولعاً أيضاً بجمع العملات والتحف، حتى إنه كان يحرص على تحضير فنجان قهوته بنفسه حتى آخر أيام حياته”.
وبيّن ابن الراحل (أبو ناصر) أن “والده كان على مستوى عالٍ من الاحترافية في عمله علماً أنه أمّيٌّ لا يقرأ ولا يكتب، فمن الأشياء التي كان يقوم بها هي وصل الأغاني والمقاطع الفريدة لأم كلثوم وفريد الأطرش على الأسطوانات رغم صعوبة ذلك حينها”.
وأضاف الزين أن “أبو ناصر متميز بالحساب حيث كان يقوم بترتيب مؤرشفاته وتصنيفها بشكل دقيق ومميز وسلس، فأيّ شخص يأتي إليه ويطلب منه أي أغنية يلبّيه دون أي مشاكل تذكر”.
ولفت الزين إلى أنه “في بداية الثمانينيّات طُرح شريط كاسيت لجورج وسوف، حيث كان الإقبال على المحل كبيراً جداً لشرائه في ذاك الوقت، كما كان هناك إقبال حينها على أغاني عائلة البندلي الفنية بشكل عام، والمطربة دورا البندلي بشكل خاص”.
وأضاف الزين أنه “استمرت فترة أوج المحل وعطائه لما بعد انتشار السيديات وأجهزة الفيديو سي دي، حيث كان والدي ينتقي سي دي الأغاني بعناية أيضاً، وعند ظهور الإنترنت بدأت تتراجع وتيرة العمل في المحل شيئاً فشيئاً”.
وعن الإرث الغني والحافل الذي تركه (أبو ناصر) يقول ابنه ظافر إن “الأرشيف التراثي الضخم من الذاكرة الذهبية التي خلّفها والدي سنحافظ عليه برموش أعيننا، فمن أجهزة البيك أب والبكر والمسجلات الكاسيت التي كان يواظب على شرائها بشغف، إلى الأسطوانات التي تحافظ على ألقها حتى الآن وأشرطة البكر والكاسيت”.
ويبقى أبو ناصر حكايةً جميلةً عن زمن جميلٍ نحلمُ بعودته، ونتمسّك بأصالته مؤكّدين من حيث ندري أو لا ندري مقولة أجدادنا (اللي مالوا قديم ما لو جديد).
علي رحال- تلفزيون الخبر – طرطوس