العناوين الرئيسيةمحليات

رائحة الموزاييك ما تزال تفوح في أزقة دمشق القديمة رغم فقدها 70% من حرفييها

يقف الحرفي “أبو سامر” (65 عاماً) في ورشته الصغيرة ذات الأمتار القليلة والمزدحمة بالقطع الخشبية التي تفوح منها رائحة نفّاذة تملأ المكان، مع تبعثر بعض المعدات البسيطة على الطاولة التي تقع على يسار آلة نشر الخشب، وبجانبها الكثير من قطع الموزاييك الدمشقي المعتّق.

يروى “أبو سامر” لتلفزيون الخبر، وهو يمسح القطع الخشبية والألواح وينسّقها بإبداع وإتقان “حكايات عن عمله في صناعة الموزاييك منذ 40 عاماً، حيث عبّر عن محبته للحرفة التي مازالت محتفظة بسمعتها النبيلة، قائلاً: “رغماً عن أنوف الجميع مهنة الموزاييك باقية وأفرح في كل مرّة أنجز فيها قطعة واحدة “.

وتحدّث “أبو سامر” عن ورشته التي تعتبر من الورشات القليلة المتبقية في دمشق والتي مازالت محافظة على هذه المهنة العريقة بمهارة ودقة، قائلاً: “علّمتها لابني لأنها مهنة أصيلة ولا تخيّب آمال الذين يعملون فيها رغم صعوبة الظروف وانقطاع الكهرباء لأكثر من خمس ساعات متواصلة لتأتي نصف ساعة”.

بدوره، رئيس جمعية الشرقيات في اتحاد الحرفيين فؤاد عربش أكد لتلفزيون الخبر أن “التقنين الجائر أثر سلباً على العمل وخفّض نسبة الإنتاج في مهنة الموزاييك، حيث أجبر الحرفيين الاعتماد على أنفسهم واختصار الأيدي العاملة (الشغّيل) لأنهم لا يستطيعون دفع الأجرة له دون أن يعمل وسط قطع الكهرباء من ٦ إلى ٨ ساعات يومياً”.

وأضاف “عربش”: “الحلول البديلة لتأمين الكهرباء ليست بهذه السهولة بسبب شح مادة المازوت، الأمر الذي لا يشجّع الحرفيين على شراء مولدة كهربائية نتيجة صعوبة تأمين المادة، وما تشكّله من أعباء إضافية وتكلفة على قطعة الموزاييك الواحدة”.

“الموزاييك” إلى الزوال

حافظت مهنة “الموازييك” الشرقية على رونقها وأصالتها بالرغم من فقدانها لكثير من الحرفيين الذين كانوا يتقنوها في القرن الماضي، ويكفي أن تجول في حارات دمشق القديمة لترى مجموعة من الورشات الصغيرة المعدودة على أصابع اليد والتي تفوح من أروقتها رائحة الخشب.

وأكد “عربش” عدم “وجود رقم دقيق لعدد محال الموزاييك حالياً، ولكن سوريا فقدت 70 بالمئة من معلمي الحرفة، حيث يصل عدد محال الموزاييك في دمشق القديمة إلى مايقارب الـ 10 ورشات، أما في ريف دمشق فهم أقلّيات نتيجة الحرب”.

وأضاف “عربش”: “عدد الذين يمتهنون الموزاييك تراجع كثيراً بعد أن كان بالآلاف في أيام الستينات بدمشق وريفها”.

وقال “عربش”: “الجيل الجديد جذبته التكنولوجيا لأن الغالبية لا يملكون الصبر لتعلّم هذه الحرفة، وما يلبث أن يجرّب أحدهم تعلّمها ليبتعد عنها من صعوبتها وما تتطلب منه من جهد عضلي وذهني”.

الأمر الذي أكده “آندريه”(50 عاماً) الذي يعمل بورشة لا تبعد عن السابقة بضع خطوات، قائلاً لتلفزيون الخبر: “حرفة الموزاييك صعبة جداً وتتطلب منك الكثير.. تعلّمتها بعد عناء من والدي، متحدّثاً عن القطع القديمة الموجودة داخل الورشة المنجزة منذ ( 20 عاماً) كذكرى من والد جده”.

وأضاف “آندريه”: “تعلّمت هذه المهنة من والدي ولم أستطع النزوح عنها رغم الظروف القاسية التي مرّت على جميع المهن في سوريا من غلاء أسعار المواد الأولية وغيرها، وبقيت مهنة الموزاييك في قلبي فن وعشق”.

الموزاييك سر بـ “بير” دمشق

خلال جولة في حارة القشلة بدمشق القديمة تجد ورشة صغيرة لمالكها “أبو رامي” (80 عاماً) الذي تحدث عبر تلفزيون الخبر، عن آلية صناعة الموزاييك وهو يضع مادة لتلميع خشب الموزاييك على قطع محفورة لتصبح بالشكل المطلوب”.

وأضاف “أبو رامي”: “مهنة الموزاييك عبارة عن أشكال هندسية مختلفة ومتنوّعة تتخلّلها قطع صغيرة تسمّى العضم بعد التحكّم بعدده، بحسب حجم القطعة المراد تشكيلها”.

بدوره، “عربش” أكد أن “سر صناعة الموزاييك تحتفظ به سوريا وعجزت دول العالم على معرفة آلية صناعة هذه الحرفة”.

وأشار “عربش” إلى أن “أكثر أنواع الخشب المستخدمة في هذه الحرفة هي الجوز والليمون، إضافة إلى استيراد أنواع لأخشاب غير موجودة في سوريا مثل خشب الورد الذي نستورده من شرق آسيا لجمال لونه”.

وأضاف “عربش”: “لجأنا حالياً لاستيراد خشب الجوز الذي يعتبر من أجمل أنواع الخشب بعد أن فقدناه نتيجة تضرّر الأراضي الزراعية في الغوطة بسبب الحرب”.

أما عن الصدف الذي يزيّن قطع الموزاييك، أكد “عربش” استيراده بكميات من الفليبن وتايلند ويسمى (الرهّاج)، حيث يطعّم به الموزاييك بعد حفره، ثم يتم تلميعه بمادة (الكماليكا) وهي مادة نباتية تشبه صمغ الأشجار منها الفرنسي والمصري والهندي، حيث تمر القطعة من خلالها بمراحل تسمى (التأسيس والتشبيع ثم التلميع).

الموزاييك “غالي” على السوري

روى “داني” (45 عاماً) الذي يقرب محلّه من قوس باب شرقي عن ارتفاع الكلفة لقطعة بابلية وهي عبارة عن طاولة زهر، إضافة إلى لوح لعبة الشطرنج مع لوح لعبة الورق، قائلاً: “هذه القطع معروفة بالتصميم الروماني، وهي عبارة عن ثروة حقيقية في سوريا، ويحدّد سعرها بالملايين”.

وأكد “عربش”: “كلفة قطعة الموزاييك على المواطن السوري مرتفعة جداُ مقارنة بدخله، حيث أصبحت بالنسبة له من الكماليات لأنه يسعى جاهداً لتأمين حاجاته الأساسية، أما الأجنبي عندما يرغب شراؤها، فتكون له أرخص مما كانت عليه بالماضي”.

وأضاف “عربش”: “يبدأ سعر علبة الموزاييك وسطياً التي تكون بحجم كف اليد 10 آلاف ليرة سورية، أما القطعة في نفس الحجم التي يتخللها الصدف يبدأ سعرها بـ 40 ألف ليرة سورية”.

ماذا حلّ بتصدير الموزاييك؟

جذبت قطع الموزاييك الكثير من الزائرين والسيّاح العرب منهم والأجانب قبل الحرب على سوريا، حيث اهتمت بها أسواق عديدة في دمشق وعرضت منتجاتها ومبتكراتها الشرقية، فيما عقد عدد كبير من السياح الصفقات لشراء كميات كبيرة من الموزاييك على عكس أيامنا هذه.

وأشار “عربش” إلى أن ” السياحة تراجعت نتيجة الحرب وكان لها آثاراً سلبية على تراجع نقل الموزاييك إلى دول العالم، ولكن بعض السوريين الذين يسافرون مازالوا يعتبرون الموزاييك أجمل هدية على الإطلاق”.

وأردف “عربش”: “لدينا الفرص متاحة لتصدير الموزاييك إلى الخارج وشحنه يتم بسهولة، لكن عدد التجار الدوليين والعالميين الذين يرغبون بشراء الموزاييك قلّة نتيجة الحصار الاقتصادي على سوريا”.

يذكر أن الموزاييك الدمشقي من أقدم المهن العريقة التي اشتهرت بها سوريا، حيث يعود تاريخ صناعته إلى أكثر من 700 عام، ومن أشهر البيوت الدمشقية المزينة بقطع الموزاييك بيت نظام ومكتب عنبر وقصر خالد العظم والسباعي والقوتلي، عدا عن انتقاله إلى الكثير من دول العالم التي تزيّنت وتجمّلت به.

“تعليم الموزاييك بكفّة وملاحقة الغش بكفة”

أكد رئيس جمعية الشرقيات “عربش ” أن “الجمعية تسعى لتعليم الموزاييك وتُقيم حالياً دورات تعليمية لخمس حرف تراثية منها (القيشاني والخزف والإكسسوارات والحلي والرسم على الخشب التقليدية) خوفاً عليها من الاندثار والزوال والعنصر النسائي هو الأكثر إقبالاً”.

وأضاف “عربش”: “صناعة الموزاييك يدوية بحتة، ولكن بعض الورشات لجأت لتزويرها عبر تصوير الموزاييك وطباعته على (كرتون) ثم لصقه على الخشب، وتعمل الجهات المعنية على مصادرة القطع المغشوشة من الأسواق”.

يشار إلى أن “أول حرفي مارس مهنة الموزاييك هو جرجي جبرائيل البيطار عام 1860، حيث انتقى فكرته من الفسيفساء الرخامي الذي يدخل بصناعة الأشكال الهندسية الرخامية للبحرات التي تتوسط المنازل العربية القديمة”.

و”طبّق “البيطار” هذه الأشكال بمقاسات صغيرة على الخشب، ثم تطوّرت بعد مرورها على عدة مراحل أيام الاحتلال العثماني، وبعدها الانتداب الفرنسي”.

يذكر أن “الحرفة انحسرت في دمشق القديمة وتحديداً باب شرقي، ثم انتقلت إلى الأرياف كون الأخيرة كانت تتغنّى بالأشجار باختلاف أنواعها منها الجوز والسرو والحور والمشمش والليمون التي تدخل جميعها في صناعة الموزاييك”، بحسب وصف “عربش”.

كلير عكاوي – تلفزيون الخبر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى